لاحظت وأنا أتابع باهتمام أول خطاب للرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب أننا أمام رئيس مختلف تمـاما عن كل من سبقوه، فهو رئيس يمتلك كاريزما خاصة، شعبوي بدرجة هائلة، تكرهه، لكن لا يمكن أن تنفي عنه سمة القدرة اللافتة على إثارة الجدل والتأثير والاستقطاب الجماهيري.
وقد توقفت كثيرا عند نقاط محددة من خطابه الأول منها تعهده بأنه سيقلب الطريقة التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع بقية دول العالم، فهي وعد انعزالي بامتياز ويثير مخاوف كل القوى الدولية، ولكن ما يطمئنني شخصيا أن الخطاب العسكري أو الأمني غائب أو غير حاضر بنفس قوة الخطاب المصالحي/ التجاري. فترامب مشغول كثيرا بالتجارة والحمائية والشركات والمنتجات والوظائف، وهذه في مجملها هي المفردات التي تتردد كثيرا في خطبه وتصريحاته، ويغازل من خلالها الشعب الأميركي.
هو رئيس برداء “التاجر” يبحث عن مصالح بلاده، ولا يعير اهتماما للآخرين، يفكر في إدارة دولة ضخمة بحجم الولايات المتحدة كمـا يفكـر في إدارة شـركاته الضخمة، ويبدو على ثقة بأن المنطق واحد في الحالتـين، وهـذا ما ستثبته الأيام، فلا نجده يفكر في القيم والنموذج الأميركي، ولا هو مشغول بأفكار “المكدلة” و“الكوكلة” (نسبـة إلى ثقافـة الطعـام السـريع في المطـاعم الأميركيـة الشهيـرة التي باتت تنتشر عالميا كالنـار في الهشيـم) أو “النمـذجـة” التي تعبـر عن القوة الناعمة الأميركية، وأخذت عقودا طويلة من التنظير والتفكير الاستراتيجي باعتبارها ركائز الهيمنـة الأميـركية على النظام العالمي، كما لم نجده يفكر في هذا النظام البتة، ولا يعير له بالا، وكأن الولايات المتحدة قد توقفت فجأة عن التفكير في البقاء على قمة هذا النظام.
وهذا ما يجعلني أقول لمن يسألني عن المستقبل “لننتظر قليلا حتى يفرغ الرجل من قراءة تقارير الاستخبارات والأجهزة الأميركية لنرى كيف يتصرف وماذا يقول وقتها، وهل ستقبل كل تلك المؤسسات بمنطق ترامب الانعزالي الانسحابي المفاجئ وترك فراغ عالمي هائل ستملأه بالتأكيد الصين وروسيا، وربما قوى إقليمية أقل نفوذا؟”.
معارضة شريحة من الشعب الأميركي لترامب لا تعني أننا في مواجهة رئيس عنصري، فترامب، أيا كانت قناعاته وتوجهاته الشخصية، ملتزم بالدستور الأميركي الذي تأسس بناء على حساسيات وتاريخ طويل من المعاناة جراء التفرقة العنصرية
الإشكالية أن ترامب يفكر في إعادة النظر في قواعد النظام العالمي والعلاقات الدولية برمتها، فقد دعا في خطابه إلى إعادة النظر في التحالفات التي عززت النظام الأمني الدولي منذ الحرب العالمية الثانية، ما يعني بالتبعية استهداف مؤسسات هذا النظام مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن وتقويض ذلك كله، وقد أعلنها صراحة في خطابه “سنحدد مسار أميركا والعالم لسنوات قادمة. سنواجه التحديات. سنواجه صعوبات، ولكننا سننجز هذه المهمة”.
نحن إذن أمام رئيس شعبي يذكرنا بطراز هوغو شافيز ومعمر القذافي، ولكن على النسق الأميركي الديمقراطي والقيمي، فهو لا يتحدث عن نقل السلطة من إدارة إلى أخرى، بل من إدارة إلى الشعب الأميركي، هو نمط جديد من الرؤساء الأميركيين، ولكن لا بد أن نعترف أنه يلامس عواطف شريحة كبيرة من الشعب الأميركي، من الذين يريدون التغيير، ويئسوا من خطاب الحزبين الجمهوري والديمقراطي التقليدي، ومن يعانون الخوف منذ اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث نجح الرئيس الجديد بامتياز في اللعب على خوفهم ومشاعرهم وافتقارهم للأمن الداخلي في الكثير من المدن والمناطق بسبب تهديدات الإرهاب والجرائم الناجمة عن حرية حمل السلاح.
ما يشدني أن ترامب يفكر في النفوذ الأميركي بطريقة مغايرة، فبدلا من الفكرة التقليدية بشأن تسويق النموذج وفرض المعايير والقيم الأميركية كوسيلة للسيطرة والهيمنة، هو يريد بناء النموذج ودفع الآخرين إلى الاحتذاء به، وهي فكرة مختلفة، وتتعلق بتخلي الولايات المتحدة عن فرض أسلوب حياتها على الآخرين، ومن ثم تتعلق بجوهر الاستراتيجيات الأميركية، وهنا تثار تساؤلات حول قدرة الرئيس الجديد على تحقيق وعده.
الحضور القوي للدين في خطابه الأول يذكرني بجورج بوش الابن، فترامب يرسل إشارة قوية على إيمانه الديني بأن الله هو الحامي الأقوى للولايات المتحدة، وعندما تحدث عن الوطنية أشار إلى الكتاب المقدس واستشهد به، كما حاول أن ينفي عن نفسه تهمة العنصرية، سعى جاهدا للتحدث بلغة مغايرة لحملته الانتخابية ليرسل رسائل طمأنة للسود الأميركيين، ولكن تبقى أفعاله هي ما ينتظره الجميع.
هناك أعمال عنف رافقت تنصيب ترامب وتظاهرات داخل الولايات المتحدة وخارجها، ووصلت هذه المظاهرات إلى النيجيريين، ولا أدرى لماذا دخل النيجيريون تحديدا على خط معاداة ترامب بهذا العنفوان، وهي في مجملها ردود فعل طبيعية للمخاوف التي أثيرت حول توجهاته وسياساته وآرائه طيلة الأشهر الماضية، ومن الصعب توقع مسارات هذه الأحداث سواء باتجاه الانزواء أو التفاقم خلال الفترة القليلة المقبلة، والأمر لا يتعلق بالتظاهرات، فهذه ستختفي حتما، ولكن الرهان الحقيقي يتمثل في عدم وجود أي أعمال عنف عنصرية بسبب وجود ترامب.
وما يهمني توضيحه، كمراقب، أن معارضة شريحة من الشعب الأميركي لترامب لا تعني أننا في مواجهة رئيس عنصري، فترامب، أيا كانت قناعاته وتوجهاته الشخصية، ملتزم بالدستور الأميركي الذي تأسس بناء على حساسيات وتاريخ طويل من المعاناة جراء التفرقة العنصرية، وبالتالي فلن يحيد عن هذه المبادئ، ومن الصعب وصفه بذلك على خلفية تصريحاته خلال الحملة الانتخابية، فهو الآن رئيس الولايات المتحدة والحساب يبدأ من استلامه السلطة وليس من شعاراته الانتخابية، وبالتالي لا مجال لاستغلال ذلك.
كما أننا، كعرب، لدينا تحديات وأزمات أهم من التصدي لأفكار ترامب، فهذه الأفكار تخص الشعب الأميركي بالأساس طالما لم تؤثر في شعوبنا، وهو لم يهاجم العرب لكونهم عربا، بل لأنه يرى أنهم لا يتحملون تكلفة الدفاع عن أمنهم، ويلقون بأعباء كثيرة على الولايات المتحدة، وبالتالي هو يدافع عن مصالح الولايات المتحدة ولا يهاجم العرب في هذه الجزئية تحديدا، ومن هنا أعتقد أن علينا أن نكون عقلانيين ومنصفين كي لا نفتعل معارك ونتسبب في تغذية خطاب تنظيمات الإرهاب التحريضي من دون أن ندري. وعلينا أن نتذكر أن الرئيس ترامب نفسه قد جلس ليستمع إلى آيات القرآن الكريم في كاتدرائية واشنطن الوطنيـة، وهذه هي الولايات المتحدة وعلينا ألا نبالغ ونضخم في توجهات الرئيس الجديد قبل أن يختبرها الواقع الفعلي.