هذا التمهيد مهم للتساؤل حول مغزى انزعاج الرئيس ترامب من الصور التي نشرتها وسائل الاعلام الأمريكي لحفل تنصيبه، حيث شن ترامب وفريق مساعديه هجومًا حادًا على وسائل الاعلام ووصف الصور بأنها "مضللة"، والسبب أن الصور قد أظهرت انخفاض عدد الحاضرين لمراسم تنصيب ترامب مقارنة بالحشود التي حضرت مراسم تنصيب الرئيس السابق باراك أوباما قبل أكثر من 8 سنوات. وقال المستشار الإعلامي لترامب إنه "كان أكبر جمهور على الإطلاق يحضر مراسم تنصيب"على الرغم من أن الأرقام أشارت إلى أن عدد الحضور لم يزد عن 750 ألفًا"، وأضاف أن الإدارة الأمريكية ستحاسب وسائل الإعلام!
هناك في الولايات المتحدة هيئات رسمية تدير المتنزهات، التي تحتضن هذه الحشود الهائلة، ومن ثم فإن هذه الهيئات تستطيع تقديم تقديرات شبه رسمية لأعداد المحتشدين، ولكن بعض هذه الهيئات قد توقف عن تقديم تقديراته للأعداد على خلفية تهديدات بمقاضاتها بسبب ما يقال إنه أخطاء ومزاعم حول تقديرات الحشود.
الرئيس ترامب يقول إن عدد الحضور في حفل تنصيبه قد بلغ نحو مليون ونصف، ولكن هذا التقدير يفتقر، بطبيعة الحال، لدليل رسمي، ما اضطر مساعدوه إلى محاولة دعم ما قاله عبر وسائل عدة منها القول بأن اعداد المحتشدين في متنزه واحد فقط قد بلغت 720 ألفًا داخله بخلاف المحتشدين بالخارج، وأن الذين استقلوا المترو في واشنطن في يوم التنصيب قد فاقوا اعداد من استقلوه في يوم مراسم تنصيب الرئيس السابق أوباما في مستهل ولايته الثانية عام 2013، ولكن هذه الادعاءات تحاشت الاشارة إلى حفل تنصيب الولاية الأولى لأوباما حيث حققت الحشود رقمًا قياسيًا تاريخيًا وقتذاك!.
ومع ذلك فإن أرقام فريق ترامب قد وقعت في فخ المقارنات مع الرسميين، حيث ذكرت هيئة المواصلات في واشنطن أن عدد تذاكر المترو التي بيعت يوم التنصيب الثاني لأوباما قد بلغ 782 ألفا، بينما بيع 571 ألف تذكرة يوم تنصيب ترامب!!
المثير للضحك أن فريق ترامب يشعر بحساسية شديدة، بل ويستشعر وجود نوع من التربص الإعلامي وربما الرسمي، حيث أعرب الفريق عن تشككه في رقائق بلاستيكية لتغطية العشب في المتنزهات للمرة الأولى بهدف "كشف الأماكن الخالية من المشاركين عند التصوير"، زاعمًا أن مرات التنصيب السابقة كان العشب يخفي حقيقة اختفاء الحضور !!. والأمر لم يقتصر على اتهام العشب، بل قيل إن الأسوار وأجهزة الكشف عن المعادن والتحوط الأمني الشديد كان له تأثير بالغ في تقليص أعداد الحاضرين، لكن مسؤولين أمنيين ردوا بأن الإجراءات التي تمت هي إجراءات أمنية معتادة في مثل هذه المناسبات.
المهم أن هذا السجال اللافت قد شهد تكرارًا لاستهانة ترامب بالإعلام ووصفه للصحفيين والعاملين فيه بأنهم "من أكثر الناس كذبًا وتضليلًا في العالم"، فيما نفت المؤسسات الإعلامية الكبرى في الولايات المتحدة تمامًا اتهامات الرئيس الأمريكي وفريق مستشاريه الصحفيين، وقالت "سي إن إن"أن الاتهامات الموجهة لها سببها أنها نقلت الأمر بدقة، واصفة مزاعم الرئيس ترامب بأنها "كاذبة".
الواضح أن السجال قد امتد ليشمل مقارنات شملت حفلات تنصيب الرؤساء السابقين للولايات المتحدة، فقد دخل مسؤولون في العاصمة واشنطن على خط السجال ليؤكدوا أن 1.8 مليون شخص حضروا تنصيب الرئيس السابق أوباما في مستهل ولايته الأولى عام 2009 ، وأن ما يقرب من مليون شخص حضروا تنصيبه الثاني عام 2013. في ما حضر مراسم تنصيب جورج دبليو بوش (جورج بوش الابن) عام 2005 نحو 400 ألف، وحضر تنصيبه عام 2001 نحو 300 ألف شخص، كما تحدث هؤلاء عن أن من حضروا حفل تنصيب بيل كلينتون عام 1993 نحو 800 ألف، فيما حضر نحو 250 ألفا حفل تنصيبه الثاني عام 1997. وبيعت نحو 140 ألف تذكرة لتنصيب رونالد ريجان عام 1985.
مايشدني، كمراقب وباحث، في هذا الجدل الاحصائي الرائع أن يثير لدي إشكالية بحثية مهمة تتلخص في: هل إحصاءات التصويت هي الأهم بالنسبة للساسة أم تأثير الصورة والحاضرين فيها؟ ومن يعطي الشرعية: الصورة أم الصندوق الانتخابي ام كلاهما معًا؟ وهل هناك فارق بين الشرعية الانتخابية والشرعية الشعبية؟ وهل سلطة الاعلام الهائلة قد أنتجت ما يمكن تسميته بالشرعية الإعلامية؟ وهل بات الإعلام باعتباره سلطة مستقلة جزءًا من الشرعية السياسية للقادة والرؤساء؟
أزمة ترامب هي بالأساس مع وسائل الإعلام التقليدية، والشبكات الأمريكية الكبرى منها بالأساس، فهو يعتبر نفسه نتاجًا خالصًا لوسائل الاعلام الجديدة، فهو نجم بارز من نجوم "تويتر"بتغريداته التي لا تتوقف على مدار الساعة، والسجال والاتهامات بين ترامب والاعلام لم تتوقف منذ إعلان ترشحه للانتخابات الرئاسية الأمريكية.
الموضوعية تقتضي القول بأن الاعلام الأمريكي كان يتبنى موقفًا معاديًا، وليس فقط مضادًا لترامب، الذي خاض الانتخابات ولم يكن في صفه تقريبًا سوى صحف لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، في سابقة تاريخية لمرشحي الرئاسة الأمريكية، وكان الحديث المعتاد يتمحور حول تراجع شعبية ترامب أمام هيلاري كلينتون وكيف أن خسارته محتومة، وأن على الحزب الجمهوري التخلي عنه قبل ان يلقي هزيمة تاريخية تؤثر في مستقبل الحزب!
قبيل الانتخابات الأمريكية نشرت صحيفة "واشنطن تايمز"نتائج استفتاء أجرته جامعة "كوينيبياك"وأظهر أن 55% من المصوتين المحتملين في الانتخابات الأمريكية يرون أن وسائل الإعلام متحيزة ضد ترامب. وكان الاستطلاع في نهاية أكتوبر الماضي أي قبل أيام قلائل من الانتخابات الأمريكية. اللافت أيضًا أن صحفًا أمريكية قد غيرت مسارها التاريخي في السباق الانتخابي الأمريكي الأخير للاعراب عن موقفها المناوىء لترامب؛ فعلي سبيل المثال، سجلت صحيفة "سان دييغو يونيون تريبيون"سابقة في تاريخها الممتد لـ 148 عاما، إذ أعلنت تأييدها لهيلاري كلينتون، كما سجلت صحيفة "ديترويت نيوز"أول تأييد لمرشح ديمقراطي منذ 143 عاما، والأمر ذاته بالنسبة لصحيفة "أريزونا ريبابليك"التي دعمت مرشحًا ديمقراطيًا للمرة الأولى منذ 126 عاما، ومن بين الصحف المائة الأوسع انتشارًا في الولايات المتحدة، لم يحظ ترامب سوى بتأييد اثنتين، وبينما أيد هيلاري كلينتون أكثر من 200 صحيفة.
وهذه الحقائق ربما تفسر في مجملها جانبًا، ولو ضئيلًا من الحرب الباردة والعداء المستفحل والمتنامي بين ترامب والاعلام الأمريكي، لاسيما بعد أن شعر الرجل أنه هزم كل هؤلاء وفاز بثقة الشعب الأمريكي.
إنها ليست إحصاءات عابرة، بل تحولات تاريخية هائلة في العلاقة بين السياسة والإعلام، ومن يمتلك منهما دفة القيادة، ومن يؤثر في الآخر في هذه العلاقة الأبدية، ولكن يبقى الأهم في جدل الشرعية السياسية: هل هي للصورة الصحفية والقطة التلفزيونية أم للصندوق التصويتي؟.