منذ أن تولى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منصبه في العشرين من يناير الماضي، ومؤسسات البحث والفكر تعج بدراسات ليس فقط حول مستقبل الرئيس ترامب نفسه في البيت الأبيض، بل أيضاً حول مستقبل دور الولايات المتحدة على رأس النظام العالمي القائم.
مفاهيم مثل "العهد الجديد" و "عصر ما بعد الغرب" و"عصر ما بعد أميركا" بدأت تترد على ألسنة الباحثين وكثير من الساسة، حيث يرى كثيرون أن مواقف ترامب وتوجهاته ترسم ملامح جديدة للولايات المتحدة، وهي ملامح انعزالية ليست فقط عن العالم، بل عن القيم والأفكار التي طالما روجت لها ضمن إطار ما يعرف بالنموذج القيمي الأمريكي، أو الغربي، القائم على نبذ العنصرية والدفاع عن الحريات وحقوق الانسان والانفتاح والاندماج في تيار العولمة الجارف، وهي أمور يجسدها ما يعرف بالحلم الأمريكي، الذي يعد أحد أهم "الصادرات" الأمريكية لمئات الملايين من البشر حول العالم. فكرة غلق الأبواب والتمترس وراء الجدران هي فكرة مناوئة تماماً لفكرة العولمة، ثم كيف لقائد النظام العالمي أن يتخلى عن مقعد القيادة رغم ما يعنيه ذلك من خسائر استراتيجية باهظة، ولكن ما يهمني هنا أن الفكرة باتت مطروحة بالفعل ولم آت بها من الخيال.
عصر ما بعد الغرب مفهوم جديد نسبياً في العلوم الاستراتيجية ورد مؤخراً على لسان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف يوم السبت 18 فبراير في كلمته امام مؤتمر ميونيخ للأمن، وقال لا فروف أن حلف الأطلسي (ناتو) هو مؤسسة للحرب الباردة، وأن توسعه قد أدى إلى توتر غير مسبوق في أوروبا خلال العقود الثلاثة الماضية.
من الواضح أن موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حيال حلف "الناتو" قد أغرى روسيا بمحاولة انتهاز الفرصة والانقضاض على هذا الحلف، الذي يعد رمزاً للعداء معها باعتبارها الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي السابق، الذي تأسس حلف الأطلسي لمناهضته إبان حقبة الحرب الباردة، وهي لا تزال ترى في توسع هذا الحلف استهدافاً لها رغم كل المياه التي جرت في قنوات العلاقة بين موسكو والعواصم الغربية.
يقول لا فروف أن الحرب الباردة لا تزال مشتعلة في عقول بعض الساسة الغربيين، والحروب كما يقول تبدأ في العقول أولاً، وأن بلاده "لا تبحث عن النزاعات مع أحد، لكنها قادرة على حماية نفسها على الدوام". والواضح أن روسيا ترفض بقوة القواعد الحاكمة للنظام العالمي القائم، وترى أنه "لا يمكن للعالم أن يظل يحكم من خلال دول نخبة" بحسب ما قال لا فروف.
الصراع والشد والجذب بين روسيا والغرب ليس جديداً، ولن يتوقف خلال المدى المنظور، ولكن ما يهمني هنا أنه هناك مشتركات بدأت في التبلور بين روسيا وعواصم غربية بشأن هوية النظام العالمي القائم، فالمستشارة الألمانية انجيلا ميركل قالت في المؤتمر ذاته "لا يوجد لدينا حتى الآن نظام دولي واضح"، ويبدو من تحليل الكلمات أن إشكالية العلاقة مع روسيا هي أحد معالم غياب النظام العالمي، فالولايات المتحدة، رغم قيادتها للنظام العالمي، لم تستطع حتى الآن بلورة استراتيجية محددة للتعاطي مع النفوذ الروسي.
الاتحاد الأوروبي يتجه الآن إلى بحث إشكالية العلاقة مع الاتحاد الروسي بعمق أكثر لاسيما بعد أن استفاق على إمكانية سحب الحماية الأمريكية لأوروبا، على خلفية تصريحات الرئيس ترامب، وهي احتمالية غير واردة واقعياً ولكنها تظل قائمة ضمن حسابات الاستراتيجيين، ويجب التحسب لها والعمل على إعداد بدائل للتعاطي معها حال وقوعها، لذا نجد أن المستشارة ميركل تقول "لم نتمكن خلال السنوات الـ25 الفائتة من إقامة علاقات مستقرة مع روسيا، ولكن روسيا جارة لنا وتقع على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي"، حيث تحدثت عن المصالح المشتركة في مكافحة الإرهاب، ودعت إلى الحفاظ على آلية العمل ضمن مجلس "روسيا ـ الناتو".
ورغم أن نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس قد حاول "تلطيف" موقف الرئيس ترامب الذي كان قد سبق له وصف حلف الأطلسي بأنه "منظمة بائدة"، فإنه كرر دعوة الشركاء الأوربيين إلى تخصيص 2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي لبلادهم للنفقات العسكرية، مشيرا إلى الترابط بين الولايات المتحدة وأوروبا في القيم ذاتها متحدثاً عن قيم الحرية والديموقراطية والعدالة وسيادة القانون!!.
صحيفة الاندبندنت من جانبها نشرت تقريراً يقول أن العالم مقبل بالفعل على دخول مرحلة ما بعد الغرب، مع ضمور التأثير الأوروبي وانحسار النفوذ الأمريكي، ما يوفر فرصة نادرة لدول مثل روسيا في تشكيل نظام عالمي جديد، ويستند هذا التقرير إلى تقديرات وردت على لسان لفولفغانغ إيشينغر، رئيس المؤتمر ضمن تقرير نشر قبل أيام من انعقاد مؤتمر ميونيخ الأمني السنوي، واعتبر فيها إن استفتاء بريكسيت وانتخاب دونالد ترامب قد تسببا في زعزعة دعائم مؤسسات دولية كالاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وحلف الناتو، ما أصاب هذه المؤسسات بهشاشة وضعف، وتوقع ايشينغر تحول الولايات المتحدة من قطب عالمي للتجارة والأمن إلى سياسة خارجية أحادية وربما منكفئة على الذات، وقال إن الإدارة الأمريكية الحالية محفز قوي لنشأة "عالم ما بعد النظام". وأضاف في عبارة مهمة "لعلنا إذاً نوشك أن ندخل عصر ما بعد الغرب، وهو عصر يأخذ فيه لاعبون غير غربيين في تشكيل الشؤون الدولية، إما على التوازي مع أطر العمل متعددة الأطراف نفسها التي كانت حجر أساس النظام العالمي الليبرالي منذ 1945، وإما بشكل يتهدد هذه الأطر نفسها".
طرح هذا السياسي المخضرم مجموعة من الأفكار المثيرة للاهتمام منها قوله إن بعض أهم أعمدة الغرب والنظام العالمي الليبرالي تضعف، وأن أعداء المجتمعات المنفتحة اتخذوا وضعية الهجوم. وأن إيمان مواطني الديمقراطيات بقدرة أنظمتهم على تحقيق نتائج إيجابية لهم بات أضعف وأضعف، كما باتوا أيضاً يفضلون الحلول الوطنية وإغلاق الحدود على العولمة والانفتاح، أما الأنظمة غير الليبرالية من الجهة الأخرى فتبدو ثابتة الأقدام واثقة الخطى، فيما إرادة وقدرة الديمقراطيات الغربية على صياغة الشؤون الدولية وعلى الدفاع عن النظام الليبرالي القائم على القانون في تراجع.
هذا الكلام في غاية الاثارة ويستحق اهتماماً كبيراً من المختصين والباحثين، لأنه يعني تسليماً من الغرب بفشله في إدارة أزمات مثل سوريا وأوكرانيا وغير ذلك، وما يهمنا في المنطقة هنا أن هذه النقاشات قد تسهم في توليد حالة غير مسبوقة من الفراغ وربما الصراع الاستراتيجي لشغل الفراغ الناجم عن انحسار النفوذ الغربي وحتى إحلال نظام عالمي جديد محل القائم. وهنا لنا أن نتوقع سعى دول تمتلك أطماعاً استراتيجية مثل إيران وغيرها لمزيد من التمدد واختبار إرادة العالم ومقدرته على لجم خططها للسيطرة على دول ومناطق مجاورة، أو لإعادة هندسة الأوضاع الجيوسياسية إقليمياً.