تابعت في الآونة الأخيرة نقاشات كثيرة تشير في مجملها إلى وجود علاقة ما بين الفساد والظاهرة الإرهابية المتنامية عالمياً، وهل ثمة تغذية متبادلة بين الظاهرتين اللتين تنخران في جسد مناطق شتى من عالمنا العربي، أم أن ما يقال في هذا الصدد ليس سوى تفسيرات وتأويلات تحتاج إلى قرائن علمية وبراهين واقعية؟
بداية الجدل عندما أعلنت منظمة الشفافية العالمية في تقرير لها صدر مؤخراً، إن الفساد المتفشي في العديد من الدول، يغذي ويشجع جهود تنظيمات إرهابية مثل "داعش" ويساعدها في تجنيد مجموعات من الساخطين على هذه الأوضاع، ويشير التقرير أيضاً إلى أن هذا الفساد يؤدي أيضا، في جانب آخر إلى إضعاف مؤسسات الدولة، بما يجعلها غير قادرة على مواجهة التنظيمات والجماعات المتطرفة.
لم يكتف هذا التقرير بالتحذير من هذه العلاقة المتبادلة بين الفساد والإرهاب، بل قطع بعدم وجود فرصة لهزيمة الإرهاب في ظل هذه الظروف، وقال إنه لن يكون ممكنا أبداً، هزيمة تنظيم "داعش"، مالم يتم التعامل مع الظروف الفاسدة التي تساعد التنظيم على النمو والتمدد.
من قراءتي البسيطة للتقرير، خلصت إلى أن التقرير ينطوي على بعد سياسي خفي، ويغمز ويلمز من قنوات أنظمة شرق أوسطية بعينها، ولكن ذلك لا ينفي تماماً أهميته ولا إشارته المهمة لدور الفساد في تغذية الإرهاب.
وللتأكيد على ما اعتقد، أشير إلى ما تضمنه التقرير بشأن اتهام الدول الغربية، بتجاهل أثر الفساد كمحفز رئيسي يؤدي لانتشار الإرهاب، وخاصة في الشرق الأوسط، ويدعو هذه الدول إلى الضغط من أجل ضمان المحاسبة فيما يتعلق بالميزانيات العسكرية.
هذا هو أحد الأبعاد الخفية في التقرير، فالعلاقة التي يتحدث عنها التقرير في جوهره، أي علاقة الفساد بالإرهاب، لا ترتبط كثيراً بالميزانيات الدفاعية للدول، فهناك احتمالية عالية لوجود هذه العلاقة بالفعل ولكن لديها مداخل أخرى أكثر التصاقاً بواقع الشعوب من الميزانيات الدفاعية، فالفساد الذي ينخر في جسد المجتمعات ويهيئ البيئة للإرهاب كي يستقطب الشباب الساخطين هو فساد في مستويات دنيا ووسطى بالأساس، فساد يستولي على فرص عمل وقوت أسر، وينهب ميزانيات البنى التحتية والطرقات والأموال المخصصة للصحة والتعليم وغير ذلك، وهذا لا ينفي بالتبعية خطر فساد المستويات العليا من السلطة والحكم، بل إن هذا، إن حدث، فهو كارثة الكوارث ومصيبة المصائب وأساس البلاء!!
تقرير منظمة الشفافية الذي يحمل عنوان "المحفز الكبير" يرى أن "داعش" يستغل الفساد لنشر التطرف والاستقطاب ويطرح نفسه باعتباره البديل والعلاج لهذه الأجواء الفاسدة، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن من الضروري أيضاً الانتباه إلى أن فاعلية خطط تنظيمات الإرهاب على مستوى التجنيد والاستقطاب لا ترتبط بمتغير مجتمعي واحد، بل ببيئة تنطوي على روزنامة من العوامل التي تصب في مصلحة الإرهاب، ومن ضمنها الفساد وليس هو العامل الأوحد، فهناك التشوش الديني والفقهي، وانحسار دور التوعية الدينية الجادة، وتكاسل وتباطؤ رجال الدين والمؤسسات الدينية وغرقها في صراعات وخلافات مع تيارات سياسية وأيديولوجية نجحت إلى حد كبير في سحب هذه المؤسسات ودفعها إلى الانصراف عن دورها والخوض في سجالات تلفزيونية و"فيسبوكية" عقيمة، أو تخويفهم وإرهابهم فتحصنوا في عباءاتهم ولاذوا بها فراراً من الملاحقة الإعلامية أو الوظيفية!! وهناك أيضاً الفقر والبطالة وضعف التعليم وتفشي الجهل وغياب النموذج او القدوة وتهافت الإعلام وتخليه عن دوره الحقيقي وتحوله إلى "بزنس" يعمل لمصالح وأجندات خاصة!
لا أريد هنا أن يعتبرني البعض مدافعاً عن تأثير الفساد، فهو من دون شك معول هدم مدمر، بل إن تأثيره ويتسع ويتشعب بدرجة تفوق بمراحل مسألة انجذاب بعض الشباب لتنظيمات الإرهاب، وعلينا أن نقر بأنه ليس كل المتضررين من الفساد ينخرطون في صفوف "داعش"، وهذه نعمة كبيرة نحمد الله عليها، وإلا لكان هذا التنظيم قد توحش بدرجة أكبر مما هو حاصل، ولكانت عناصره قد بلغت أرقاماً مليونية!
وفي المقابل، لا أريد أيضاً أن احصر أسباب التجنيد والاستقطاب في الفساد فقط، فهناك عناصر تنتمي إلى طبقات اجتماعية لا تعاني جراء هذا الفساد، وهناك رعايا غربيون لديهم مبررات أخرى تدفعهم للانخراط في صفوف تنظيمات الإرهاب، ما يستوجب معالجة شاملة ورؤية متكاملة لهذا الأمر.
الفساد ظاهرة متشعبة موجودة في الكثير من المجتمعات والدول، وآثارها ومظاهرها وممارساتها تطفح في العمل العام، وبالدرجة ذاتها تطفح أيضاً في تنظيمات الإرهاب، فمثلما يوجد موظفون مرتشون فاسدون، يوجد أيضاً قادة مليشيات فاسدون، ويستبيحون الأموال والأعراض ويسرقون وينهبون، فالفساد داء عضال ومرض خبيث لصيق ببيئات وممارسات معينة، وإن تفشي فقد يصاب به الكثيرون سواء كانوا إرهابيين أو رسميين!