لا يختلف اثنان من المراقبين والباحثين في العلاقات الدولية على أن أحد أبرز الأسباب في حالة الفوضى والاضطراب الدولي الراهنة أن هناك انحسار وتراجع غير مسبوق في دور الأمم المتحدة، التي أخفقت في تحقيق أي تقدم أو حلحلة في جميع ملفات النزاعات والصراعات الدولية التي تشهدها مناطق شتى من العالم. اخفاق الأمم المتحدة تسبب في تقويض دعائم النظام العالمي، ولم تعد المنظمة الدولية سوى مكان يتجمع فيه قادة العالم كل عام وفي مناسبات متفرقة من أجل تبادل الكلمات والمصافحات واستعراض الآراء واثبات المواقف من دون أي تقدم حقيقي في ملفات النقاش المعروضة على مندوبي الدول وممثليها في المنظمة الدولية.
في ضوء ما سبق تحول المشهد العالمي إلى بحر بل محيط هائج هادر من الفوضى، وأصبحت القرارات الدولية مسألة تتجاهلها بعض الدول التي تضرب بالشرعية الدولية عرض الحائط، ولدينا في هذا الشأن نموذجين واضحين أولهما إسرائيل، التي تتجاهل قرارات الأمم المتحدة الخاصة باحتلالها لأراض عربية منذ عام 1948 حتى الآن، بل إنها تواصل الاعتداء على الأراضي العربية حيث قامت بالأمس بتوجيه ضربة جوية داخل الأراضي السورية، ولم تكتف بذلك بل غضبت من اعتراض الدفاعات الجوية لجيش بشار الأسد للمقاتلات الإسرائيلية، وحذرت من تدميرها تماماً في حال اعترضت مرة أخرى مقاتلات إسرائيلية تنتهك أراضي دولة أخرى وتضرب أهدافاً، وكأن المطلوب أن تقابل بالترحيب والتهليل!! الحالة الثانية في منطقتنا للعربدة التي تمارسها بعض الدول متجاهلة القانون الدولي، تتمثل فيما تقوم به إيران، التي تنتهك سيادة دول عربية عدة جملة واحدة هي العراق وسوريا ولبنان، وبل وتباهي باحتلال عواصم هذه الدول والسعي لاحتلال عاصمة رابعة، كان يقصد بها صنعاء، عاصمة اليمن!! الأمم المتحدة تقف حيال ذلك كله عاجزة صامتة، لا تسمع لا ترى لا تتكلم، ولكننا اكتشفنا مصادفة أن للمنظمة ومؤسساتها أنياب قوية، حين اعترضت على لفظ ورد في تقرير أعدته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الأسكوا)، ووصف التقرير إسرائيل بأنها "دولة عنصرية". خلص هذا التقرير إلى أن "إسرائيل تقيم نظام تمييز عنصري يسيطر على الفلسطينيين ككل"، ما تسبب في غضب إسرائيل، ووصفت الخارجية الإسرائيلية التقرير الأممي بأنه "دعاية نازية معادية لليهود"، كما عبرت الولايات المتحدة عن تذمرها من التقرير، واضطر المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك إلى القول بأن اللجنة نشرت التقرير دون علم الأمانة العامة للأمم المتحدة. وبعد شد وجذب وضغوط شديدة من أجل سحب التقرير، اضطرت ريما خلف الأمينة التنفيذية للأسكوا إلى الاستقالة وتم سحب التقرير بالفعل من الموقع الالكتروني للأمم المتحدة على الانترنت. ريما خلف قالت إن التقرير أعد بطلب من الدول الأعضاء في الأسكوا، التي تضم 18 دولة عربية، وتضمن تهمة توجه للمرة الأولى لإسرائيل في تقرير دولي صادر عن وكالة تابعة للأمم المتحدة. لن أركز هنا على محتوى التقرير ومدى قانونية توجيه تهمة فيه لإحدى الدول الأعضاء في المنظمة الدولية، ولكن اللافت في الأمر أن الأمم المتحدة استفاقت في هذه اللحظة ودافعت عن موقفها في مواجهة الضغوط الإسرائيلية والأمريكية، والجميع شغلهم اتهام الوكالة لإسرائيل بهذه التهمة من دون البحث في أسبابها وما ينطوي عليه التقرير من انتهاكات وممارسات ترتب عليها توجيه هذا الاتهام! هذه الانتقائية من جانب الأمم المتحدة في الغضب من أجل إسرائيل بموازاة تجاهل حقوق ومطالب عادلة ومشروعة لدول أخرى يدفع ثمنها العالم أجمع، فالجهة الدولية المنوط بها تحقيق العدالة الدولية وتطبيق قواعد القانون الدولي ومبادئه حين تكيل بمكيالين، فإنها تتسبب في انتشار حالة من الإحباط واليأس لدى الدول والشعوب التي تفشل في انتزاع حقوقها ومطالبها المشروعة، وتقتنص تنظيمات الإرهاب هذه الحالة لإشاعة الإحباط واليأس لدى الشباب واستغلالهم وتجنيدهم ضمن صفوفها، ثم نعود لنسأل ونتساءل عن أسباب الإرهاب ويزعم البعض زوراً وبهتاناً أن الدين هو السبب، وأنه يحرض على العنف وغير ذلك من تخرصات باطلة. الكثيرون يتساءلون ولديهم كل الحق: إذا كانت الأمم المتحدة لديها مخالب وتستطيع إظهار غضبها حتى ولو على وكالاتها التابعة لها، فكيف تقبل بموازاة ذلك انتهاك الدول نفسها التي غضبت من أجلها للقانون الدولي؟ وكيف توجه إسرائيل اللوم للأمم المتحدة وهي التي كانت معولاً رئيسياً في تقويض صدقية المنظمة وتأثيرها في المنطقة والعالم؟ منذ سنوات طويلة يتحدث الكثيرون عن إصلاح الأمم المتحدة ونظام التصويت في مجلس الأمن، الذي لا يزال يمضي وفق معادلات القوة عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة، ولكن ليست هناك نوايا عالمية جادة لإصلاح المنظمة الدولية، فالقوى الدولية ترى أنه ليس من مصلحتها ان يكون للأمم نفوذ عالمي قوي، وبقية الدول لا تستطيع فرض إرادة الإصلاح على المجتمع الدولي، وهكذا تبقى الأمم المتحدة ناد للنقاشات الأنيقة وتبادل الاتهامات وأحياناً الابتسامات من دون دور حقيقي فاعل في تحقيق الأمن والاستقرار العالميين.