أصنف نفسي دائما ضمن القراء المتابعين للأحداث الإقليمية والدولية جيداً، واٌخضع الظواهر والأحداث للفحص والتحليل بحكم عملي كباحث، وأيضاً لأن لدي ميل فطري يدفعني لعدم الاكتفاء بأنصاف المعلومات!! وقد تابعت بدقة في الفترة الأخيرة الأزمة التي نشبت في البرازيل بسبب اكتشاف قضية فساد كبرى تورط فيها عدد كبير من المسؤولين في قطاع صادرات اللحوم البرازيلية.
وحتى لا يسارع أحدهم ويتهمني بأن الخبر شغلني لعشق ذاتي للحوم، وللتوضيح أقول إن هذه القضية تحديداً شغلتني لأسباب عدة أولها أن البرازيل من الاقتصادات الناشئة الصاعدة بقوة، وتعتمد في ذلك بشكل كبير على صادراتها من تجارة اللحوم، فهي أكبر مصدر للحوم الحمراء المجمدة في العالم، وبلغ حجم صادراتها نحو 11 مليار دولار سنوياً من لحوم الأبقار والدجاج، إذ بلغت قيمة صادراتها من الدواجن في عام 2016 نحو 5.9 مليار دولار، في حين بلغت قيمة صادرات اللحوم الحمراء في العام نفسه نحو 4.3 مليار دولار. والأمر الثاني يرتبط عضوياً بالأول ويتمثل في أن حدوث مشكلة في قطاع اللحوم بالنسبة للبرازيل يضاهي حدوث أزمة في قطاع النفط بالنسبة لأحد كبار مصدري النفط مثل المملكة العربية السعودية أو غيرها من الدول، لا قدر الله. والأمر الثالث أن البرازيل هي إحدى أبرز الدول التي تصدر اللحوم لدولنا العربية والخليجية، فقد بلغت قيمة صادرات لحوم الأبقار البرازيلية إلى الدول العربية خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2016 نحو 8ر2 مليار دولار، بالتالي فمن الضروري متابعة تطورات مثل هذه الأزمة التي تردد أنها كشفت عن تصدير لحوم فاسدة لدول كثيرة منذ أعوام طويلة مضت.
فضيحة الفساد في سوق اللحوم البرازيلية ربما جاءت في توقيت سيء لهذا القطاع الحيوي في البلاد، فللتو عادت اللحوم البرازيلية المجمدة إلى الأسواق الأمريكية في أغسطس الماضي بعد 17 عاماً من وقف استيرادها من جانب الولايات المتحدة، حيث كانت التوقعات تستهدف بلوغ حجم صادرات يقدر بنحو 400 مليون دولار سنوياً، وهو رقم ضئيل مقارنة بالصادرات الاسترالية من اللحوم للولايات المتحدة، وكانت الأخيرة قد فرضت حظراً في عام 2010 على استيراد لحوم الأبقار البرازيلية لأسباب صحية تتعلق بجودة المنتج البرازيلي، ولكنها استأنفت الاستيراد عام 2012، حيث اقتصر الحظر على اللحوم المجمدة فقط.
تجارة اللحوم الدولية تمثل عصب اقتصادات دول عدة، فهي تجارة ضخمة يقترب حجمها من 100 مليار دولار أو يزيد، وهناك نحو 160 دولة تستورد اللحوم ومشتقاتها، ما يعكس اعتمادية عالية في تغطية الاحتياجات المحلية على الدول المصدرة للحوم، وفي مقدمتها البرازيل وأستراليا وهولندا وأيرلندا ونيوزيلندا والهند وغيرها.
وفي ضوء ما سبق من أرقام واحصاءات ربما لا تثير اهتمام الكثيرين، فإنني اتفهم دواعي القلق البالغ لدى القيادة السياسية البرازيلية منذ اكتشاف قضية الفساد في سوق اللحوم، حيث سارع الرئيس البرازيلي ميشيل تامر إلى طمأنة الدول الأجنبية المستوردة للحوم من بلاده بشأن سلامة المنتجات المصدرة إليها بعد تفجر فضيحة الفساد، وعقد لقاء سريع مع سفراء دول من أوروبا والولايات المتحدة والصين، لإرسال رسائل طمأنة بشأن الثقة في جودة اللحوم البرازيلية وإحكام الرقابة على الأسواق.
الإشكالية أن الفضيحة تطال ثلاثة من أكبر مصانع تعبئة اللحوم اتهمت ببيع منتجات فاسدة لعدة سنوات سابقة، حيث تجري السلطات البرازيلية تحقيقا واسع النطاق في هذا الشأن، استجوبت فيه العديد من المدراء في هذه الصناعة، ممن اتهموا بتلقي رشى للتغطية على هذه الفضيحة، حيث تم إيقاف نحو 33 مفتشاً حكومياً من بين نحو 11 ألف مفتش يعملون في هذا القطاع الضخم بحسب تأكيدات الرئيس البرازيلي أثناء محاولاته تحفيف وقع الأزمة على المستهلكين في العالم.
المؤكد أن الفضيحة هزت معظم المستهلكين وجهات الرقابة الغذائية في معظم دول العالم، فالبرازيل تصدر اللحوم الحمراء إلى نحو 150 دولة. ورغم التشدد والصرامة المألوفة في الجهات الرقابية الأوروبية، فإن مصادر برازيلية قد أكدت أن بعض اللحوم الفاسدة تسربت إلى أوروبا، الأمر الذي يفسر اجتماع الرئيس البرازيلي مع سفراء بعض الدول الأوروبية، الذين ربما يكونوا من بين مستهلكي اللحوم الفاسدة!!
أعجبتني إدارة الرئيس البرازيلي ميشيل تامر للأزمة التي تخص قطاع اقتصادي حيوي في بلاده، فقد تولى على الفور زمام المبادرة وتحرك في مختلف الاتجاهات، وحرص على إعلان الحقائق أولاُ بأول، بل أكد أن وزارة الزراعة البرازيلية ستنشر قريبا جدا قائمة بالدول التي تسلمت لحوما فاسدة فضلا عن شركات تعليب اللحوم المسؤولة عن ذلك، وأن قوة مهمات خاصة ستشكل لتسريع عملية التحقيق مع المصانع المشمولة. وأكد في بيان رسمي أنه من المطلوب تكرار القول بأن مصانع تعبئة اللحوم مفتوحة أمام إجراءات التحقيق من الدول التي تستورد اللحوم البرازيلية. وفي لفتة طريفة، حرص الرئيس تامر خلال لقائه مع السفراء على دعوتهم لتناول وجبة عشاء في مطعم يقدم وجبات شواء تقليدية من اللحوم البرازيلية.
ورغم الإدارة الحازمة للأزمة، ورغم الإعلان عن أن التحقيقات تطال فقط 21 منشأة من بين 4800 منشأة تعمل في تعبئة اللحوم وتخضع للفحص الدوري، فإن الفضيحة تنطوي على كارثة بكل المقاييس لهذا القطاع الحيوي في البرازيل، فالمنشآت المتورطة تابعة لأكبر شركة مصدرة للحوم الأبقار في العالم، وكذلك أكبر منتج للحوم الدواجن في العالم!!.
وكعادة كل فضيحة اقتصادية، هناك علاقة سياسية ما، فقد كشفت نتائج التحقيقات عن أن الأموال التي قيل إن الشركتين المتورطتين دفعتهما كرشى قد ذهبتا إلى اثنين من الأحزاب البرازيلية الكبرى، أحدهما حزب الحركة الديمقراطية البرازيلي الذي يتزعمه الرئيس تامر نفسه!!
اتضح أيضاً أن التحقيقات في الفضيحة جارية منذ نحو عامين، أي أن الفضيحة قديمة، وأن الكثيرون ربما استهلكوا خلال تلك الفترة لحوماً جيدة وأخرى فاسدة، وتأكدت من خلال متابعتي أن ممارسات الفساد ومظاهره واحدة وإن تباعدت الجغرافيا، فمافيا اللحوم الفاسدة استخدمت أيضاً أحماضاً كيماوية ومواد مسرطنة لإخفاء فسادها، وفي حالات أخرى، بحسب التحقيقات، خلطت البطاطس والمياه وحتى الورق المقوى بلحوم الدواجن لتحقيق زيادة في الأرباح، أي أنهم يستنسخون ممارسات غش وفساد حدثت ولا تزال في بعض دولنا العربية، ربما لأن الفساد وممارساته واحدة في العالم أجمع!!