يعتقد الكثيرون أن الحرب ضد الإرهاب قد انتهت، أو في أسوأ التقديرات على وشك الانتهاء، بعد اقتراب هزيمة تنظيم «داعش» نهائياً في العراق وسوريا، وانحسار خطر تنظيم «القاعدة» بعد تفككه وتشرذمه، ولكن هناك من الشواهد على الأرض ما ينفي قطعياً مثل هذه الترجيحات، ويذهب في اتجاه مضاد لها.
فعلياً، الجرائم الإرهابية لم تنته، بل حدث لها تطوران مهمان، أولهما يتمثل في تفشي خطر ظاهرة «الذئاب المنفردة»، حيث تتجه عناصر متعاطفة مع الفكر الإرهابي، أو خلايا نائمة يتم تنشيطها عبر شبكة معقدة من الاتصالات، إلى ارتكاب جرائم فردية من دون توجيه تنظيمي مباشر، سواء في ما يتعلق بطبيعة الجريمة، أو بتوقيتها، وهدفها، ولا يكاد يمر يوم حتى نسمع عن حادث دهس في دول أوروبية، وهي حوادث ربما تفوق قدرة الأجهزة الأمنية على توقعها، والقيام بعمليات استباقية ضد مرتكبيها الذين ينتمون عادة إلى شرائح لا تخضع للمراقبة الأمنية، وغير مصنفة ضمن قوائم الخطر والاشتباه التي تعدها تلك الأجهزة حفاظاً على أمن المجتمعات.
التطور الثاني، يتمثل في الدرس المستخلص من تجربة التعامل مع تنظيمات الإرهاب طيلة العقود الثلاثة الماضية، ويتعلق بأن انشطار هذه التنظيمات وتفككها لا يقلل من خطرها، بل يحول هذا الخطر من نقطة مركزية، أو بؤرة محورية كان يتمركز فيها، إلى بؤر عدة غير معروفة من الأرض، حيث تتحول التنظيمات إلى فسيفساء تنتشر في مناطق جغرافية عدة تتسم بغياب الدولة، وانهيار الأمن، وتجد فيها العناصر الهاربة من المطاردة والملاحقة، حيث كانت تعيش، المأوى والملاذ لتبدأ نشاطها الإرهابي مجدداً. وهناك أمثلة عدة على ذلك، سواء في تجربة تنظيمات الإرهاب في مصر خلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات، أو من خلال تحلل تنظيم «القاعدة» بعد مقتل زعيمه أسامة بن لادن، وفشل أيمن الظواهري في قيادة التنظيم، وملء الفراغ الناجم عن غياب ابن لادن، وهذا الأمر مرشح للتكرار بالنسبة إلى تنظيم «داعش».
التجربة التاريخية مع تنظيمات الإرهاب تشير أيضاً إلى أنها تمر بمراحل مد وجزر، ولا تكرر نفسها، حيث يصبح الجيل الجديد عادة أخطر، وأكثر دموية وعنفاً من سابقه، فالبغدادي اتسم بالقدرة على التخطيط، وامتلك طموحاً أكبر من ابن لادن، وكان أكثر دموية، وميلاً لسفك الدماء من مؤسس «القاعدة».
لا تتطور تنظيمات الإرهاب من تلقاء نفسها، بل تستفيد عادة من تجاربها القتالية في مسارح عمليات مختلفة، ف«القاعدة» وظفت الخبرات القتالية التي اكتسبها من يعرفون ب «العرب الأفغان» في نشاط التنظيم والجرائم التي ارتكبها، ثم جاء «داعش» ليستفيد من تجربة «القاعدة»، على مستوى الفكر والتخطيط، معتمداً في ذلك على فكر منظري «القاعدة» ذاتها، حيث قام بترجمة كتاب «إدارة التوحش» على أرض الواقع.
توقعات نهاية الإرهاب تدحضها أيضاً تقديرات المتخصصين في الغرب، فاللورد جوناثان إيفانز، المدير السابق للمخابرات الداخلية البريطانية «إم آي 5»، وهو من الخبراء المعروفين في مجال مكافحة الإرهاب، حذر مؤخراً من أن بريطانيا قد تستمر في مواجهة تهديد الإرهاب الذي يقوده متشددون إسلاميون فترة تتراوح بين عقدين إلى ثلاثة عقود. وقال إيفانز إن هذه القضية تمثل «مشكلة أجيال»، موضحاً أن هذا التهديد لن ينتهي قريباً على الأرجح.
لم تكن هذه التقديرات مفاجئة بالنسبة إلي شخصياً، ولكن ما يشدني في هذه التصريحات هو إشارة إيفانز إلى أن «إنترنت الأشياء» بات أحد مصادر التهديد الإرهابي المحتملة، حيث يسمح للمركبات، والأجهزة الداخلية الاتصال بالإنترنت، ما يعني أنه يمثل أحد مصادر التهديد الناشئة.
وهنا لا يشير الخبراء إلى خطر بعيد نسبياً، فنحن نعيش بالفعل عصر «إنترنت الأشياء»، فكل شيء في حياتنا وقريب منا، داخل منازلنا وخارجها، سيمتلك قريباً خاصية اتصال بالإنترنت، وهناك تقديرات تشير إلى أن عام 2020 سيكون سوق إنترنت الأشياء أكبر حجماً من سوق الهواتف المحمولة، وأجهزة الحاسوب، والأجهزة اللوحية مجتمعة بمقدار الضعفين.
علينا أن نتصور أن الإرهاب سيطور قدراته على التدمير باستخدام التقنيات الحديثة، وأن الصراع مع تنظيمات الإرهاب لن يكون في الجبال والكهوف بل عبر شبكات الحاسوب والبرمجة السحابية، وغير ذلك من أمور لا تزال الكثير من دول العالم بمعزل عنها.
قد يقول قائل: لماذا تتوقع أن تستفيد الأجيال المقبلة من الإرهابيين من التطور التقني الذي سيغيب عن كثير من الدول؟ الجواب هنا يعتمد على التجربة التي أمامنا، حيث نجد أن أحد أهم أسلحة «داعش» يتمثل في الإعلام الجديد، والتقنيات الحديثة في الإعلام، حيث استفاد منها التنظيم في نشر نشاطه الإرهابي، وكسب متعاطفين جدد، أكثر مما استفادت الدول والحكومات في مكافحة الفكر الإرهابي، وهذا القياس ينطبق تماماً على ما هو آت، فالأجيال الجديدة من الإرهاب لا تضاهي السابقين، بل أكثر تعليماً واحتكاكاً، ويأتي بعضها من دول غربية، أي يمتلكون العلم والتكنولوجيا، وقادرون على التعامل مع أحدث موجاتها.
علينا إذاً، أن ندرس جدياً خطر تطور العمل الإرهابي، ليس على المستوى الفكري فقط، ولكن أيضاً على المستوى التنظيمي والحركي، وهذا هو الأهم الآن، لأننا نركز كثيراً على الفكر وننسى أن الإرهاب تحول إلى مصدر جلب للأموال، في ظل تمويل دول تمتلك الثروة لأنشطته، مثل قطر وغيرها، وهذا يعني أننا يمكن أن نفاجأ بأن هناك استثمارات موجهة لتطوير أنشطة الجيل المقبل من الإرهابيين.