باتت عمليات «الدهس» تمثل كابوساً جديداً للأجهزة الأمنية في كثير من دول العالم، بعد الاعتداء الإرهابي الأخير في برشلونة الأسبانية، وبات واضحاً أن هناك ما يشبه الاستراتيجية الجديدة التي تستخدمها تنظيمات الإرهاب في تحقيق أهدافها، بعد أن اكتشفت أن عمليات الدهس تنفذ أهداف الإرهاب من دون تخطيط أوكلفة مالية كبيرة، فكل ما تحتاجه هذه الهجمات الاجرامية ربما يتمثل في «سيارة مؤجرة» يقودها عنصر إرهابي لقتل وإصابة العشرات بعد اختيار مكان مزدحم للإيقاع بأكبر عدد من الضحايا الأبرياء.
هذا السيناريو الإرهابي الدامي تكرر في باريس في التاسع من أغسطس الشهر الماضي، حيث صدم رجل يقود سيارة مجموعة من الجنود فأصاب ستة منهم، وقبلها في لندن خلال شهر يونيو حيث قتل ثمانية أشخاص عندما صدم ارهابيون يقودون شاحنة صغيرة المشاة على جسر «لندن بريدج» ثم طعنوا بعض المارة، وفي استوكهولم السويدية في ابريل الماضي، قتل إرهابي أوزبكي أربعة أشخاص عندما داهم متجرا بسيارته. وفي مارس الماضي، كانت العاصمة البريطانية لندن أيضاً مسرحاً لعملية دهس إرهابية حيث قتل أربعة أشخاص عندما صدمت سيارة المارة على جسر «وستمنتستر»، ثم طعن سائق السيارة شرطياً، فأرداه قتيلا. وفي التاسع عشر من ديسمبر 2016 دهس إرهابي تونسي جموع في مدينة برلين الألمانية متسبباً في مقتل12شخصاً. وقبلها كان إرهابي تونسي أيضاً قد ارتكب مجزرة بشعة عندما دهس الحشود في ممشى «برومونادديز انغليه» بشاحنة أثناء احتفالات»يوم الباستيل».
هذه الجرائم الإرهابية الجديدة تطرح العديد من التحديات أمام دول العالم كافة، أول هذه التحديات صعوبة بناء توقعات أو تقديرات بشأن وقوع هذه الاعتداءات، التي لا يسبقها غالباً تدابير أو تحتاج إلى معلومات معقدة يمكن رصدها خلال مرحلة التداول بين العناصر الإرهابية، وثاني هذه التحديات أن معظم المتورطين في هذه الاعتداءات الإرهابية ينتمون إلى شريحة غير المسجلين أو المصنفين أمنياً، وهم غالباً من فئات عمرية صغيرة السن، وربما فشلوا في السفر والالتحاق بتنظيم «داعش» في العراق وسوريا بسبب التضييق الأمني فقرروا استنساخ جرائم التنظيم في دول ومدن أخرى لتحقيق هدفهم.
ثالثاً: أن تنظيم «داعش» قد انتقل من مرحلة «المركزية» ودولة الخلافة المزعومة بعد انهيارها وتدمير أصولها، إلى تبني تكتيك نشر الرعب وتوسيع دائرة المواجهة لإيصال رسالة الخوف والرعب والصدمة التي يتبناها التنظيم منذ البداية إلى أكبر عدد ممكن من الناس، وهي الرسالة ذاتها التي كان يحرص عليها التنظيم عبر بث لقطات مصورة (فيديو) للذبح والحرق، وهي استراتيجية الصدمة والرعب، التي استمدها التنظيم من كتاب «إدارة التوحش» وينفذها الآن عبر عمليات الدهس التي تنطوي على خطورة بالغة من الناحية الأمنية والاقتصادية، كونها تنشر الفزع بين السكان والسائحين في مدن ودول عدة، فضلاً عن كونها تؤثر بشكل بالغ على السياحة ومعدلات التدفق السياحي في هذه المدن والدول.
السؤال الأكثر إلحاحاً الآن يتمثل في كيفية التصدي لإرهاب عمليات الدهس المتوالية في مدن غربية عدة، وكيف يمكن توقع مرتكبيها والتنبؤ بتصرفاتهم والتصدي لهم بشكل استباقي، والجواب الدقيق على هذه التساؤلات قد يستغرق بعض الوقت للبحث في آليات جديدة تحول دون ارتكاب مثل هذه الجرائم من دون التأثير في الحركة السياحية وغير ذلك.
أحد أهم الوسائل بعيدة المدى للتصدي لهذه الاعتداءات يتمثل في استئصال منابع الفكر المتطرف، فكثير من مرتكبي هذه الاعتداءات ولدوا في دول غربية وتأثروا فكرياً بخطاب التحريض الإرهابي الذي يتردد على ألسنة شيوخ الفتنة في هذه المدن والدول، التي سمحت لبعضهم بتصدر المشهد الخطابي والدعوي لسنوات طويلة مضت بدعوى حرية التعبير، أو انهم مضطهدون في بلادهم وغير ذلك من الأكاذيب.
الرد العالمي على الإرهاب الذي دعا إليه رئيس الوزراء الاسباني،ماريانوراخوي عقب اعتداء برشلونة، مطلوب أيضاً، ولايجب أن يقتصر على العمليات العسكرية، بل يجب أن يطال محاسبة كل مصادر تمويل الإرهاب بشكل صارم، وملاحقة كل دولة أو فرد او مؤسسات أو جماعات تثبت عليها تهمة تمويل الإرهاب أو توفير مأوى لعناصر إرهابية.
من دون الاتفاق والتوافق العالمي على روزنامة إجراءات أكثر صرامة وحزماً لتضييق الخناق على تمويل الإرهاب، والدول المتورطة في ذلك، وعلى رأسها قطر وقيادتها التي غرقت حتى أذنيها في تمويل تنظيمات الارهاب، سيظل العالم يئن ويعاني تحت وطأة هذه الجرائم التي تتمدد بشكل مفزع ويدق أجراس الخطر قبل فوات الأوان.