من يتابع ما ينشر في كثير من التقارير الغربية، يدرك أن هناك تحليلات عدة تتحدث عن سعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإضعاف الزعامة الأمريكية للعالم، ويقول بعض المحللين الأمريكيين، أن جهود بوتين حصلت على دعم غير مقصود من السياسات الأمريكية بشكل غير مسبوق، ويشيرون في ذلك إلى انسحاب واشنطن من اتفاقية "الشراكة عبر المحيط الهادئ"، واتجاه الولايات المتحدة للانسحاب رسمياً من اتفاق باريس حول التغير المناخي، بما يوفر للصين فرصة تاريخية لقيادة العالم في مجال البيئة رغم ما يشوب ملفها من انتقادات وملاحظات دولية، فضلاً عن ثغرات أخرى عديدة على صعيد القيادة الأمريكية للعالم، ولاسيما مشهد تحديد مصير سوريا في "سوتشى" بمعزل عن الولايات المتحدة.
في سوريا تحديداً، تتجلى القيادة الروسية في نجاحاتها السياسية والاستراتيجية، حيث قاد الرئيس بوتين الأسابيع الأخيرة تحركات دولية مكثفة بحثاً عن تسوية سياسية للأزمة السورية بعد إعلانه هزيمة الإرهاب في هذا البلد عسكرياً، وتطهير نحو 98% من الأراضي السورية من تنظيم "داعش". وفي هذا السياق تحرك بوتين من خلال إجراء اتصالات مع قادة كثر، ومنهم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، والملك سلمان بن عبد العزيز، والرئيس عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تناولت جميعها القضية السورية، فيما التقى في سوتشي الرئيس السوري بشار الأسد في استقبال كاشف لانتصار التحالف بينهما ضد "داعش" وتنظيمات الإرهاب، واتفق الجانبان على ما يشبه المبادئ الأساسية لتنظيم العملية السياسية للتسوية في سوريا.
وأكد الأسد خلال هذا اللقاء استعداد دمشق للحوار مع كل المهتمين بالحل السياسي في البلاد، وهو تطور لافت بالنظر إلى مواقف دمشق السابقة تجاه المعارضة، ويظهر التأثير الروسي في البحث عن حلول توافقية للأزمة، وتأكيداً على ذلك أورد بيان رسمي روسي أن بوتين أبلغ الأسد أنه بات من الضروري الآن التوصل إلى تسوية سياسية في سوريا، مشيرا إلى أن الأسد مستعد للعمل مع كل من يريد السلام، والاستقرار في سوريا، كما كان لافتاً رعاية الرئيس بوتين لقاء غير عادي في سوتشي جمع الرئيس السوري، مع قيادة وزارة الدفاع والأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، "لتعريفه بكبار الجنرالات والضباط الذين ساهموا في إنقاذ سوريا من براثن الإرهاب". أما الرئيس الأمريكي فتحدث عن مهاتفة "رائعة" مع نظيره الروسين ووصفها بأنها مهمة جداً، وقال الرئيس الأمريكي إن هذا الاتصال الهاتفي "استمر تقريبا ساعة ونصف الساعة"، مشيرا إلى أنهما "بحثا بشكل جاد جدا إحلال السلام في سوريا". وكان اللقاء الأهم في سلسلة التحركات الروسية بشأن سوريا، القمة التي عقدت بين رؤساء روسيا وتركيا وإيران، وهي القمة التي قال عنها أردوغان "مصيرية لمستقبل البلد (سوريا) والمنطقة"، فيما بالغ البعض في وصفها مشبهاً إياها بقمة "يالطا".
رأينا روسيا تتمدد أيضاً في منطقة الشرق الأوسط من خلال استقبال الرئيس السوداني عمر البشير، في أول زيارة له إلى روسيا، وتركز النقاش حول مجالات كثيرة لفت الانتباه منها توقيع عقود مع شركات روسية للتنقيب عن الذهب والنفط بمربعات جديدة في السودان. السياسة الخارجية الروسية إذاً تتحرك وتوظف أوراق نجاحها في التمدد واكتساب مزيد من النفوذ والثقة مستغلة انحسار السياسة الخارجية الأمريكية، ولا يكف وزير خارجيتها الداهية سيرجي لافروف عن بث رسائل بشأن رؤية بلاده في العلاقات الدولية، حيث يؤكد دوما أن روسيا تحترم التزاماتها الدولية، وتحترم حرية الشعوب ولا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وتعتبر ذلك مبدأ أساسي في سياستها الخارجية.
نجاحات روسيا في سوريا حظيت باعتراف مهم من جانب المبعوث الدولي دي ميستورا الذي قال عقب لقاء له مع وزير الدفاع الروسي "أعترف بأن بلادكم بذلت جهودا كبيرة لإرساء الأساس للعملية السياسية في سوريا".
روسيا تسابق الزمن وباتت تتحدث بشكل يعكس الهيمنة الروسية الإيرانية على مرحلة إعادة إعمار سوريا، فروسيا باتت تحدد أهلية الدول للمشاركة في مرحلة ما بعد الصراع، واستبعدت دول أوروبا من ذلك ضمناً الشهر الماضي، رغم أنه خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، قالت نحو 14 دولة معظمها من الدول الغربية المعارضة للأسد، إنها لن تشارك في إعادة إعمار سوريا حتى يتم إجراء "عملية سياسية" تنطوي على خروج الأسد من السلطة، وهو الموقف الأمريكي ذاته ايضاً، حيث قال مستشار الأمن القومي الأمريكي ماكماستر يوم 19 أكتوبر إنه "يجب أن نضمن عدم ذهاب دولاراً واحداً على إعادة بناء أي شيء تحت سيطرة هذا النظام الوحشي".
في ضوء ذلك، تؤكد الشواهد أن عقود إعادة الإعمار ستذهب إلى حد كبير إلى الشركات المرتبطة بروسيا وإيران اللتين تدعمان الأسد، الذي تعهد من جانبه في نوفمبر 2016، بإعطاء موسكو الأولوية في العقود، وهناك شركات إيرانية مرتبطة بالحرس الثوري وقعت بالفعل عقوداً لبناء شبكات الهاتف والتعدين، وقال مسؤولون إيرانيون إن طهران ستبني مصفاة للنفط في سوريا.، ناهيك عن القواعد العسكرية المحتملة ضمن لعبة تقاسم المكاسب والغنائم!!
يرى الخبراء أن روسيا وإيران لا تستطيعان تحمل أعباء تمويل إعادة سوريا بمفردهما، حيث تقدر بنحو مائتي مليار دولار، والأرجح أن روسيا تحديداً ستلعب دور "بوابة" المرور للنفاذ إلى سوريا مابعد الحرب، ولكن إحدى النقاط المهمة في هذا الموضوع: كيف سينعكس ما تحقق في سوريا على النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، أمنياً واستراتيجياً وسياسياً وعسكرياً، وكيف توظيف موسكو ذلك في كسب مزيد من الأوراق في لعبة الصراع القطبية الدائرة مع الولايات المتحدة؟ وما هو مستقبل علاقاتها مع إيران وتركيا؟ وماذا عما يثار بشأن تشكل حلف جديد روسي ـ إيراني ـ تركي بمشاركة العراق وربما دول أخرى إقليمية؟ وماهو موقف الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين إزاء ذلك؟ وهل تتخلى روسيا عن شركائها الخليجيين مقابل الاحتفاظ بعلاقاتها الاستراتيجية مع إيران أم تستطيع الموائمة بين النقيضين؟