بعد توقعات أشارت إلى أن تنفيذ قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها قد يستغرق ثلاث سنوات، وبعد تصريحات رسمية أمريكية تحدثت عن إمكانية نقل السفارة في نهاية العام الحالي، أعلنت الولايات المتحدة رسمياً أنه سيتم نقل السفارة إلى القدس في مايو المقبل! وأوضح مسؤول أميركي أن نقل السفارة "سيتزامن مع الذكرى السبعين" لقيام إسرائيل، أي ذكرى النكبة!!
تبدو إدارة ترامب في عجلة من أمرها لجعل قرارها أمراً واقعاً حتى أنها لم تنتظر لبناء مقر جديد للسفارة كما كان معروفاً، بل اتخذت قراراً! بنقل السفارة إلى مقر مؤقت كمرحلة أولى تشمل انتقال السفير وفريق عمل صغير!
قوبل الإعلان الأمريكي ـ كما هو متوقع ـ بغضب فلسطيني جديد، وتأكيدات متكررة تشير إلى حجم اليأس الفلسطيني من مستقبل عملية السلام في ظل المعطيات الراهنة. ولكن الواضح أن الموقف الفلسطيني والعربي لم يعد يمتلك بدائل وحلول في التعاطي مع القرار الأمريكي، ويفترض أن يعترف الجميع بذلك ليس بداعي الاستسلام ولكن من منطلق ضرورة البحث عن مخارج وحلول جديدة والتفكير بعيداً عن دوامة التفكير وردود الأفعال التقليدية، التي لابد وأن يقر الجميع أنها لا تلقى أذاناً صاغية من جانب البيت الأبيض.
راهن الجميع على موقف دولي جماعي يستطيع الضغط على الرئيس ترامب للتخلي عن قراره بشأن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أو تجميد هذا القرار، وتابعنا جميعاً كم التحليلات والمقالات التي نشرت لتبشر العرب والفلسطينيين بأن قرار الرئيس ترامب كان مجرد تنفيذ لوعد قطعه على نفسه خلال الحملة الانتخابية وليس له أبعاد أخرى على أرض الواقع، أي أنه "حبر على ورق"، كما نقول في حديثنا الدراج، ولكن كل هذه التفسيرات والتأويلات تجاهلت تماماً طبيعة الرئيس ترامب وشخصيته وشبكة علاقاته من الشخصيات المؤثرة في قراراته ومواقفه كما تجاهلت بيئة صنع القرار واتجاهات المصالح الاستراتيجية الأمريكية خلال المدى المنظور.
يصعب فهم القرار الأمريكي بمعزل عما يحدث في إسرائيل ذاتها، فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يعاني أزمة عميقة تتعلق باتهامه بالفساد مع احتمالية عالية لإقصائه من منصبه، ويريد حشد أكبر كم من الضغوط الداخلية من أجل وقف هذه الاتهامات واحتواء تداعياتها، لذا فهو يبادر هذه الأيام لاستغلال أي حدث من أجل تعزيز شعبيته، والتأكيد على أنه الزعيم المنقذ للشعب الإسرائيلي، وقد اعتبر أن إعلان واشنطن نقل سفارتها إلى القدس في مايو المقبل "بمنزلة يوم عظيم لشعب إسرائيل" وهي العبارة ذاتها تقريباً التي قالها حين اعلن عن صفقة الغاز الموقعة مع شركة مصرية!
منذ شهر واحد تقريباً، وفي منتصف يناير الماضي، نفي الرئيس ترامب رسمياً خطط نقل السفارة الأمريكية للقدس خلال عام واحد، وقال ترامب، في حديث حصري لـ"رويترز"، رداً على سؤال حول ما إذا كان يخطط لنقل السفارة خلال عام: "في غضون عام واحد؟ إننا نتحدث عن سيناريوهات مختلفة، أقصد أنه من الواضح أن هذا الإجراء سيتطلب وقتا، ولا ننظر إلى هذه الطريقة هكذا".وكان هذا السؤال قد وجه إلى ترامب في اليوم ذاته الذي أعرب فيه نتنياهو، عن قناعته بأن يتم نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس خلال عام، حيث أكد نتنياهو أن السفارة ستنقل أسرع مما يتوقعه الكثيرون، خلال عام اعتباراً من اليوم. ولاحقاً أعلن وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون أن عملية نقل السفارة الأمريكية إلى القدس لن يتم إكمالها إلا بعد 3 سنوات على الأقل، مشيرا إلى أن هذا السيناريو يعتبر "الأكثر تفاؤلاً!
ماذا حدث خلال شهر واحد تقريباً ليختلف السيناريو الأمريكي من التفكير في خطوة تنفيذية تراوح بين عام وثلاثة أعوام إلى نحو ثلاثة أشهر! بالتأكيد هناك حسابات أمريكية وراء التعجيل بنقل السفارة، وبالتأكيد لهذه الحسابات علاقة بنتائج جولة نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس مؤخراً في المنطقة! وبالتأكيد لهذا القرار صلة وثيقة بوضعية نتنياهو الداخلية، وبتصريحات المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، التي قالت مؤخراً إن العمل على صياغة اتفاق سلام جديد بين الإسرائيليين والفلسطينيين يوشك على النهاية. وقالت هايلي في محاضرة بجامعة شيكاغو منذ أيام قلائل أن "سنطرح ما يعرف بــ"صفقة القرن" قريباً"، ولكن الحراك يكشف عن قرب الموعد حيث عقد مبعوثي البيت الأبيض إلى الشرق الأوسط جاريد كوشنر وجيسون غرينبلات اجتماعاً مع مندوبي الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي لدعوتهم إلى دعم مبادرة السلام المتوقع صدورها.
هايلي توقعت ألا تحظى خطة السلام الجديدة بحب أو كره طرفي النزاع، لكنها ستشكل أرضية لإطلاق المفاوضات بحسب تعبيرها. ورغم أن هايلي تكتمت على فحوى الخطة فإن تصريحاتها تكشف الكثير في هذا الاتجاه حيث قالت إن الزعماء السابقين للولايات المتحدة عجزوا عن تجاوز مخاوفهم من أن "السماء ستسقط" في حال إقدامهم على خطوة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وقالت تحديداً "السماء لا تزال في مكانها وبلغنا الفترة التي يمكن فيها انطلاق المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين". بحسب ما نقلته عنها صحيفة "تايمز أو إسرائيل"!
المغزى أن إدارة الرئيس ترامب اكتشفت في ما يبدو أن "السماء لا تزال في مكانها" فقررت التعجيل بتنفيذ قرار نقل السفارة وكذلك طرح خطة "صفقة القرن" على الجميع قريباً، غير آبهة بالغضب العربي والفلسطيني، فالسماء لن تسقط فوق الرؤوس كما كانوا يتوقعون بحسب ما قالت هايلي!