جوسلين متى، قاضية لبنانية تستحق أن أبدأ بها سطور مقالي لأنها قدمت نموذجاً حضارياً رائعاً في ترسيخ التسامح والتعايش بين الأديان ومكونات الشعب الواحد.
قضت هذه القاضية بإلزام ثلاثة شباب مسلمين لبنانيين أساءوا للسيدة مريم، عليها وعلى المسيح السلام، بحفظ سورة "آل عمران"، التي تمثل لدينا كمسلمين تكريم إلهي لأم المسيح، عليه السلام.
احتفت الأوساط الشعبية والرسمية اللبنانية بهذا الحكم الفريد، واعتبروا أنه يمثل رؤية قانونية مستنيرة للعقوبات، وأهدافها ومراميها، ولكن كانت في المقابل هناك أيضاً انتقادات للحكم لأنه تجاهل العقاب على الإساءة لرمز ديني عظيم، واكتفى بعقوبة يراها البعض "تربوية"، وهذا وجه آخر للقضية وله مبرراته وأسبابه.
ربما كان صدور هذا الحكم في لبنان تحديداً أحد أهم النقاط التي تلفت الانتباه، فهذا البلد العربي لا يحتمل اثارة النعرات والفتن الطائفية بعد كل ما عاناه في تاريخه الحديث جراء هذه الفتن، فضلاً عن أن جذوة الطائفية لا تزال مشتعلة بسبب تدخلات دول إقليمية مثل إيران من أجل تحقيق مصالحها الاستراتيجية عبر أذرع طائفية عابرة للوطنية والحدود والجغرافيا والولاءات وكل ذلك!
في ضوء عوامل التوتر الكامنة في المشهد اللبناني، كان توقيع أقسى عقوبة جنائية يمثل مسألة بديهية لمن يقترب من ملف الطائفية الشائك، ولكن "جوسلين متى" اختارت درباً حضارياً استدعت من خلاله لقطات من مشاهد التاريخ العظيمة للقضاء في مختلف الحضارات الإنسانية.
كان يمكن لهذه القاضية أن تنحو بالقضية باتجاه مصلحتها الذاتية لو بحثت عن الشهرة الإعلامية، وأصدرت حكماً مغايراً، ولكنها آثرت مصلحة الوطن واختارت أن تقدم نموذجاً في شق الدروب وفتح الثغرات في العلاقة التي باتت معقدة بين الديانات والحضارات في العصر الحديث.
باعتقادي، لا أقول أن هذه الحالة تصلح لمعالجة مختلف أنواع الإساءة للرموز الدينية في مختلف الدول، إذ أنني على يقين من أن القاضية قد أصدرت حكمها في ضوء ظروف ومعطيات القضية ذاتها، وتوثقت من أن حكمها هذا سيكون أكثر فاعلية من معاقبة المسيئين بأحكام قضائية تقليدية، وبالتأكيد تيقنت أن المسألة خالية من الأبعاد السياسية والشبهات الأخرى التي تتخذ من الأديان ستاراً للعبث بمقدرات الأوطان، فاختارت، وفق ذلك كله، أن تصدر حكماً يسهم في تجسير المسافة بين أصحاب الديانات السماوية، وتعطي درساً بليغاً للجميع بوحدة باعث الرسل والأنبياء، وأن هناك قواسم تربط الإسلام بالمسيحية واليهودية، وأن الفهم الحقيقي للأديان هو الأساس في بناء المشتركات وترسيخ التعايش في المجتمعات.
هي إذاً حالة منعزلة لأن أنصار الفتنة وتجار الدين يتاجرون بالحكم عبر الاعلام ويتخذون منه منطلقاً للهجوم على القضاء الحازم في دول أخرى واتهامه بالقسوة وتفريغ القوانين من مضامينها.
أن تلزم قاضية متهمين بحفظ سورة قرآنية هو بالتأكيد حكم مفاجأة، ولكنه حكم خاص بحالة ولا ينبغي المزايدة عليه ولا الانطلاق منه للنيل من شأن القوانين والعقوبات الرادعة للإساءة للأديان ورموزها والعلاقة بينها، فكما قلت هو حكم استثنائي لقاضية مستنيرة امتلكت الجرأة لدراسة ظروف قضية بعينها وإصدار حكم يتناسب مع القضية والمتهمين وظروف الدولة التي حدثت بها، وبالتأكيد كانت خبرة القاضية وخلفيتها العلمية والثقافية داعماً أساسياً لإصدار حكم له أبعاد متعددة في قضية كهذه، فكما قال فقيه قانوني لبناني " "صحيح أن النص القانوني الجزائي البحت يأمر بعقاب من يرتكب جريمة أو اساءة بحق الآخرين، ولكنه صحيح أيضا أن الغاية النهائية من النص العقابي الجزائي هي خير المجتمع ومصلحة الإنسان العليا."
من هنا أدركت جوسلين متى أن حكمها سيحقق الغرض المرجو من سن التشريعات والقوانين، وأدركت بحكم ثقافتها ووعيها وحسها التاريخي والقانوني وربما السياسي أيضاً أن "روح القانون" في حالة كهذه توفر لها المجال لترسيخ أسس التسامح والتماسك المجتمعي والحفاظ على التعايش بين مكونات المجتمع في بلد يحتاج إلى ذلك أشد الاحتياج.
في مواجهة العبث بالطائفية والولاءات العابرة والتجارة بالأديان من جانب التنظيمات والجماعات، بات الحفاظ على التعايش والعلاقة بين الأديان مسألة تستحق الاحتفاء بها، وأصبح رموزها، مثل القاضية جوسلين متى، ومن دون أي مبالغة، من بناة الأوطان، وأسرى قلوب الشعوب، ولكن هذا كله لا يقلل مطلقاً من قيمة التطبيق الصارم والحازم للعقوبات الجزائية الواردة في قوانين العقوبات بحق من يسئ للأديان والقيم المجتمعية والدينية، ولكنها حالة استثنائية تستحق التوقف عندها.