أشارت صحيفة "ديلي تلجراف" البريطانية في مقال نشرته مؤخراً أن انتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة يتزايد بشكل مضطرد، بعد وصول الإنتاج اليومي للنفط الصخري إلى 10 ملايين برميل يوميا، واستشهد المقال بتصريحات دان بروليت، مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الطاقة، خلال المؤتمر العالمي لشؤون النفط والطاقة، والذي انعقد مؤخراً في لندن، وقال فيها إن الولايات المتحدة "تستعد لتصبح دولة مصدرة للطاقة خلال السنوات العشر المقبلة أو أقل من ذلك"، مضيفاً أن بلاده تعمل على الاستغناء عن "مصادر الطاقة غير المستقرة من الخارج".
ترى الصحيفة أن التطور يعني انحسار اهتمام الولايات المتحدة بأمن الطاقة في منطقة الخليج العربي، وأن جدوى الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة تتراجع، وأن الولايات المتحدة أصبحت لا تشعر بالضغط الكبير كما كان في السابق لتأمين مرور النفط السعودي من الخليج بهدف إيصاله إلى الأسواق الأمريكية بأقل تكلفة ممكنة.
ورغم أهمية هذا الطرح فإن ينطوي على نقاط تستحق المناقشة أولها أن التزام الولايات المتحدة بتأمين صادرات النفط القادمة من منطقة الخليج العربي لم يكن يرتبط بالمصالح الأمريكية فقط نظراً لأن الوارادات الأمريكية من النفط من منطقة الخليج العربي لم تتجاوز في السنوات الأخيرة نسبة 15% من إجمالي الوارادات الأمريكية من النفط، والوجود العسكري الأمريكي في منطقة الخليج لا يرتبط بمصالح واشنطن المباشرة فقط بل يرتبط أيضاَ بعاملين مهمين أولهما تأمين صادرات النفط إلى دول الشركاء الأطلسيين في الاتحاد الأوروبي، وهو جزء من التزام "أطلسي" تضطلع به الولايات المتحدة ويخدم مصالحها الاستراتيجية بشكل حيوي، وثانيهما أن التمركز في منطقة الخليج العربي يعني السيطرة على موارد الطاقة التي يذهب الكثير منها إلى المنافسين الاستراتيجيين الجدد للنفوذ الأمريكي عالمياً، وفي مقدمتهم الصين. وبقية المسألة معروفة لأي مراقب استراتيجي فمن يسيطر على خطوط نقل النفط ومساراته يستطيع "خنق" أي اقتصاد يستفيد من هذه الامدادات، ولهذا الأمر حسابات بالغة الدقة والأهمية في توازنات القوى وحسابات الصراع الاستراتيجي العالمي.
المؤكد أن مسألة انحسار الاهتمام الأمريكي بأمن منطقة الخليج العربي كان ينطلق في السنوات الأخيرة من استراتيجية "آسيا أولاً" التي ولدت في عصر الرئيس أوباما، وأسهمت بقدر ما في تشجيع الإدارة الأمريكية السابقة على توقيع الاتفاق النووي مع إيران على أمل تهدئة التوتر في منطقة الخليج العربية بما يهيئ الأجواء لتخفيف التواجد العسكري الأمريكي في تلك المنطقة الحيوية بالنسبة للاستراتيجيات الأمريكية، ولكن هذا الفكر لم يعد قائماً في عهد الرئيس ترامب، حيث عادت إيران إلى صدارة قائمة مصادر التهديد الاستراتيجي للأمن القومي الأمريكي، وينظر إليها البيت الأبيض بدرجة لا تقل خطورة عن كوريا الشمالية.
في مجمل الأحوال، فإن صانعي السياسة الخارجية في دول مجلس التعاون باتوا يدركون أن الشراكة الاستراتيجية التقليدية مع الولايات المتحدة لم تعد مسألة لا نقاش فيها بل قابلة للتغيير والتعديل، وفق متغيرات المصالح الاستراتيجية الأمريكية، ولاسيما أن الرئيس ترامب ورغم التزامه بأمن الحلفاء الخليجيين، فإنه يمتلك وجهة نظر محددة في هذه المسألة، وهذا مايفسر التوجه الخاص بإعادة تموضع العلاقات على أسس استراتيجية جديدة، ولكن الموضوعية تقتضي القول بأن من السابق لأوانه القطع بنهاية الالتزام الأمريكي تجاه الشركاء الاستراتيجيين في المملكة العربية السعودية والامارات والكويت والبحرين، فالمصالح لا تقتصر على النفط بل تشمل ملفات أخرى متشابكة ومعقدة.
يجب أن نفصل في فهمنا للسياسة الخارجية الأمريكية حيال منطقة الخليج العربية بين ملف النفط الصخري، والالتزامات الأمريكي في المنطقة، صحيح أن انتاج النفط الصخري يقلص الاهتمام الأمريكي بالتواجد العسكري لحماية أمن الطاقة، ولكن لا تزال المنطقة تمثل أولوية بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية.