لا يخفى على مراقب لتطورات الأوضاع في الشرق الأوسط أن روسيا باتت لاعباً رئيسياً مهماً، ورقماً صعباً في أي حسابات تخص تطور الأوضاع في المنطقة بشكل عام وسوريا على وجه التحديد.
نجحت القيادة الروسية بشكل لافت في توظيف أخطاء السياسة الخارجية الأمريكية على مدى عهد الإدارتين السابقة والحالية، كما نجحت في توظيف تخاذل السياسة الأوروبية وترددها فيما يتعلق ببناء سياسة خارجية أوروبية فاعلة تجاه سوريا، رغم ما لهذا الملف الحيوي من أهمية تقليدية بالنسبة لأوروبا، كما نجح بوتين في استغلال اللحظة التاريخية السانحة لإعادة تموضع روسيا على ساحة القرار الدولي.
تحالفت روسيا مع إيران بشكل أساسي، وتركيا بشكل ثانوي، في سوريا، وقد انتج تحالفها مع إيران بعض الالتزامات التي يمكن أن تضر بمصالح روسيا على المدى البعيد، فهناك على سبيل المثال غضب واستياء وقلق إسرائيلي واضح حيال توجهات إيران في سوريا، لاسيما ما يتعلق ببناء قواعد الصواريخ الإيرانية التي تتمركز فيها ميلشيات "حزب الله" اللبناني في سوريا، فضلاً عن أن إيران تجاهر بأطماعها في سوريا، حيث ذكر الجنرال يحيي صفوي، مستشار المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي في تصريحات له نشرت منتصف فبراير الماضي، إن مساعدة إيران لنظام بشار الأسد "ليست عملاً مجانياً"، وأن إيران تعمل على استرجاع ما أنفقته في الحرب من النفط والغاز والفوسفات السوري! ربما يكون ظاهر التصريحات اقتصادي ولكنها تشير بوضوح إلى نوايا إيرانية للبقاء في سوريا بعد أن أهدرت مليارات الدولارات في تمويل نظام الأسد وميلشيات "حزب الله" ناهيك عن الفيالق الطائفية، التي جلبها الحرس الثوري الإيراني من دول مختلفة لتعمل كمرتزقة في الصراع الدائر في سوريا.
تغامر روسيا أيضاً بمصالحها مع دول وشعوب عربية عدة عندما تقف ضد إرادة المجتمع الدولي بشأن ما يحدث في اليمن من انتهاك إيراني سافر لسيادة هذا البلد العربي، عبر إرسال الأسلحة والعتاد إلى ميلشيا الحوثي الطائفية، التي تمثل الوكيل الإيراني الذي يسعى لابتلاع هذا البلد وتوظيفه ضمن المشروع التوسعي الإيراني!
مؤخراً استخدمت روسيا حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي وعرقلت مشروع قرار دولي يتهم إيران بانتهاك حظر الأسلحة في اليمن، وبدلاً من أن يكون مشروع القرار خطوة على طريق وقف نزيف الدماء في اليمن عبر لجم التدخلات الإيرانية غير المشروعة، اكتفى مجلس الأمن ـ بسبب الفيتو الروسي ـ إلى اعتماد صياغة بديلة اقترحتها روسيا لمشروع القرار تنص على تمديد عقوبات مفروضة بسبب الحرب الدائرة في اليمن.
استهدفت الجهود الدولية تحميل إيران مسؤولية دعم المسلحين الحوثيين في حربهم ضد الحكومة اليمنية المعترفة بها دوليا والتحالف الداعم لها بقيادة السعودية، ولكن روسيا كان لها رأي آخر لحماية مصالح حليفتها إيران في اليمن! وشككت موسكو في نتائج تقرير أممي أفاد بأن صواريخ أطلقها الحوثيون تجاه السعودية العام الماضي صنعت داخل إيران!
مسألة تزويد الحوثيين بالأسلحة والمعدات ليست موضع شك وجدال، ومنذ سنوات مضت، وليست طارئة على المشهد اليمني، والعالم أجمع يدرك هذه الحقيقة، ولكن المصالح المتبادلة قد أنتجت موقفاً روسياً مغايراً لحقيقة تعرفها موسكو جيداً.
المصالح ذاتها تقف وراء امتناع الصين عن التصويت على مشروع القرار الأممي في مجلس الأمن الدولي، وهذا الأمر في غاية الخطورة لأن الآليات الدولية تبدو معطلة وعاجزة تماماً عن حماية وصون الأمن والاستقرار الدولي بفعل المصالح الذاتية للقوى الكبرى.
الولايات المتحدة استخدمت الفيتو مراراً وتكراراً لحماية مصالح إسرائيل، بل إنها استخدمته لحماية تل أبيب أكثر مما استخدمته لحماية المصالح الأمريكية ذاتها(!)، والآن جاء الدور على روسيا لاستخدام نفس الفيتو من أجل حماية مصالح الحليف الإيراني في اليمن، يرافقها امتناع الصين عن الانتصار لوجهة النظر العادلة وفقاً للقوانين والمواثيق الدولية!
ولا شك أن استمرار هذا النهج في العلاقات الدولية يبدو في غاية الخطورة على الأمن والاستقرار الدوليين، حيث بات مجلس الأمن، المنوط به الحفاظ على السلام العالمي، بحكم ما تتمتع به قراراته من إلزامية وفقا لميثاق الأمم المتحدة، عاجز تماماً عن أداء مهامه، حيث يصطدم في معظم قراراته بمصالح القوى الخمس دائمة العضوية، التي تمتلك حق النقض (الفيتو).
يبرر الجانب الروسي موقفه حيال مشروع القرار وفي تعقيبه على تقرير الخبراء الأمميين، أن التقرير لم يقدم أدلة مباشرة قاطعة على تورط إيران في وصول الصواريخ إلى اليمن، ولكن المطالبة بمثل ذلك يبدو نوع من شل الأيدي عن تحقيق العدالة الدولية، إذ يدرك الجميع أن هناك صعوبة حقيقية في إيجاد دليل مباشر يدين إيران في نقل الصواريخ إلى ميلشيات "الحوثي"! بل تبدو المطالبة بمثل هذه الأدلة أشبه بمن يطالب بتقديم أدلة على تورط إيران في دعم نظام الأسد، فالمسألة واضحة للعيان، وليست هناك حاجة لأدلة في بعض الأمور، وفي مقدمتها امتلاك ميلشيات الحوثي لأسلحة متقدمة منها صواريخ باليستية لا يمكن لعاقل أن يتصور امتلاك هذه الميلشيات لتكنولوجيا تصنيعها ذاتياً!
ربما تقف اعتبارات ومصالح استراتيجية وسياسية روسية وراء مواقف موسكو واتجاهاتها حيال قضايا المنطقة، ولكن على الكرملين الحذر من استعداء الشعوب العربية وارتكاب الخطأ الذي وقعت فيه قوى دولية أخرى حين فضلت مصالحها وغامرت بصورتها وعلاقاتها مع الشعوب العربية!