يقتصر الجهد البحثي حول آثار الذكاء الاصطناعي في كثير من الأحوال على التأثيرات السلبية لهذه الثورة التي تعتمد على البيانات وتكنولوجيا المعلوماتية، فالكثيرون لا يرون فيها سوى انتشار متوقع للبطالة، وما يوصف بسرقة الوظائف وتوجيهها لمصلحة "الروبوت" الذي سيقوم بمعظم مهام حياتنا!
الحقيقة أن المسألة أعمق من ذلك بكثير، فالذكاء الاصطناعي يعتمد بالأساس على البيانات، او مدخلات المعلومات، وقد بدأت هذه الميزة بالفعل في توفير آلاف الوظائف للشباب في العديد من الدول النامية، فكل شيء في الذكاء الاصطناعي يعتمد على البيانات، ومن ثم فإن تطوير تطبيقات هذه الثورة ستعتمد على إدخال المزيد من البيانات وتحديث القائم منها، وقد بدأت شركات تكنولوجيا عملاقة مثل "جوجل" و"ميكروسوفت" و"ياهو" و"ساماسورس" غيرها في الاعتماد على نظام "التعهيد" في اسناد عمليات إدخال المعلومات لموظفين في دول مختلفة، حيث يقوم هؤلاء بتزويد خبراء وادي السيلكون من خبراء البيانات الذين يتعاملون مع الخوارزميات المشغلة الذكاء الاصطناعي.
الإشكالية التي تواجه معظم دول منطقتنا باعتقادي تتمثل في غياب أنظمة التعليم تماماً عن ما يحدث من حولنا عالمياً، فالتخصصات العلمية والمناهج لا تستهدف نوعية الوظائف الجديدة التي توفرها ثورة الذكاء الاصطناعي، رغم أن المسألة لم تعد بحاجة إلى جدل ونقاشات عقيمة، فالروبوت قادم لا محالة، وهناك جامعات ومعاهد في العالم المتقدم باتت متخصصة في الأنظمة الآلية، والأجيال البدائية من هذه الأنظمة تفوق في بعض الأحيان قدرات البشر، وبالتالي لا افهم كيف نكتفي بمراقبة هذه التطورات المتسارعة ونترك ملايين الشباب في العالم العربي بمعزل عن المستقبل؟
البعض يتصور الذكاء الاصطناعي في شكل "روبوت" يقدم خدمات آلية في المنازل وغير ذلك، ولكن الأمر توسع بشكل فاق التوقعات، فالذكاء الاصطناعي بات متخصصاً في علم الأوبئة، ويمتلك القدرة على استكشاف أماكن الانتشار المتوقعة للفيروسات والأوبئة، وهذا النظام تحديداً نجح في تحديد البؤرة الجغرافية المحتملة لانتشار الأوبئة والأمراض بدقة متناهية، ضمن مشروع ضخم تقوم بتطويره شركة "ميكروسوفت"، وهناك أيضاً نظام آلي يتعب صوت إطلاق النار بواسطة مجموعة من أجهزة الاستشعار للتعرف على مصدر الطلقات النارية وتنبيه السلطات في غضون 45 ثانية من الضغط على الزناد، .ويستعين هذا النظام الذي يسمى "شوت سبوتر" لرصد الطلقات النارية، بما يتراوح بين 15 و 20 جهاز استشعار صوتي لكل ميل مكعب، لاكتشاف الدوي المميز للطلقات النارية، مسترشدا بالمعلومات عن الزمن الذي يستغرقه الصوت للوصول إلى كل جهاز استشعار والخوارزميات للكشف عن موقع الحادثة في مساحة تصل إلى 25 متراً بحسب تقرير نشرته شبكة "بي بي سي". ويستدل النظام بخوارزميات التعلم الذاتي لتأكيد من أن هذا الصوت هو بالفعل دوي طلق ناري، واحتساب عدد الطلقات، وتستعين الشرطة بهذه المعلومات لتعرف ما إن كانت ستتعامل مع مهاجم منفرد أم مجموعة من الجناة، وما إن كان الجناة يحملون أسلحة آلية أم أسلحة نارية معتادة، وهذا النظام تم تطبيقه في نحو 90 مدينة، أغلبها في الولايات المتحدة، وبعضها في جنوب أفريقيا وأمريكا الجنوبية، وتدرس مدن أخرى إمكانية تطبيقه.
الحقيقة أنني وجدت من خلال اهتمامي بمتابعة تطور الذكاء الاصطناعي في العالم أن قطاع الصحة العامة ومكافحة الأوبئة ومعالجة الأمراض المزمنة من أبرز القطاعات المستفيدة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وهذا على عكس ما يتصوره البعض من أن هذه الثورة التكنولوجية تستهدف الحروب وتطوير الأسلحة، علما بأن هذا هو أحد القطاعات أو المجالات التي تستفيد من الذكاء الاصطناعي وليست محور هذه الثورة.
الحقيقة أيضاً أن مصطلح الذكاء الاصطناعي لا يزال مجهولاً في كثير من أوساطنا العلمية في العالم العربي رغم وجود بؤر ضوء ساطعة في هذا المجال، أهمها استثمارات دولة الامارات واستراتيجياتها القائمة في مجملها على الذكاء الاصطناعي، فالمصطلح الذي دخل عالم المعرفة منتصف خمسينيات القرن العشرين، لا يحظى بالأهمية التي بات عليها في الاقتصاد العالمي، حيث تشير التقديرات إلى أن مساهمة الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد العالمي باتت تصل إلى أرقام فلكية، حت أن إحدى الأكاديميات قدرتها بنحو 15.7 تريليون دولار من الآن وحتى عام 2030، أي ما يفوق الناتج المحلي الإجمالي للصين والهند معا، مع الأخذ في الاعتبار أن قيمة الاقتصاد الكوني حاليا 74 تريليون دولار وسيزيد بنحو 14 في المائة بحلول عام 2030.
الخبراء في العالم يرون ان الذكاء الاصطناعي يعني مزيداً من الفرص النوعية، شريطة أن تتماهى أنظمة التعليم مع هذه الثورة التقنية، ونحن لا نزال في بدايات هذه الثورة المعرفية والتقنية، وعلينا أن ننتبه إلى الإسراع بتطوير أنظمة التعليم في دولنا العربية حتى لا ينضم الملايين من الشباب خلال السنوات والعقود المقبلة إلى طوابير البطالة، ويتحولون من ثروة إلى تهديد لأمن هذه الدول وتحد تصعب معالجته.