من يتابع العلاقات الصينية مع الدول المصدرة للنفط فى الفترة الأخيرة، يدرك أن هناك بنداً بات يطرح فى معظم نقاشات الجانب الصينى مع ممثلى الدول التى تصدر النفط إلى الصين، وهو بند تسعير النفط باليوان الصيني.
لم يعد شراء النفط باليوان مجرد خطة صينية حبيسة الأدراج بل قطعت بكين الخطوات الأولى فى رحلة طويلة بدأت عام 2009، وتستهدف ترسيخ مكانة العملة الصينية على الصعيد العالمي، كرمز لقوة الصين ومكانتها الاقتصادية المتنامية.
الصين التى باتت الدولة الأولى عالميا فى شراء النفط متفوقة على الولايات المتحدة، تتجه بقوة إلى شراء النفط بعملتها المحلية، وهو ما سيعطى هذه العملة قوة متزايدة فى أسواق العملات الدولية، ويدفع بها إلى العالمية، وقد تباحثت الصين فى ذلك مع دول عدة مصدرة للنفط منها روسيا وأنجولا وإيران، هي دول تشاطر الصين رغبتها فى كسر احتكار هيمنة الدولار عالمياً، وأطلقت الصين منذ فترة مؤشر شنغهاى لعقود هام النفط الآجلة، وهو مؤشر يتوقع أن يصبح في فترة وجيزة في مرتبة متقدمة للمؤشرات السعرية العالمية للنفط، مثل مؤشر "برنت" وغيره.
ومن الطبيعي فى حال نجاح خطة استخدام اليوان فى شراء النفط أن يتوسع استخدام العملة الصينية فى معاملات تجارية أخرى مع الاقتصاد الثاني عالمياً، ولكن يجب ملاحظة أن للصين تجربة قديمة فى إطلاق بورصة للنفط، حيث سبق لها تجربة ذلك فى عام 1993، ولكنها لم تستمر بسبب تقلبات الأسعار، لذا فإن بكين تحيط محاولاتها هذه المرة بحذر بالغ مع التركيز على طرح الفكرة خلال مؤتمرات التعاون الاقتصادى والروابط التى تجمع الصين مع دول واقتصادات صاعدة تشاطرها نفس الرؤية تجاه فكرة التعددية فى النظام العالمى.
الواضح أن الصين لا تستعجل فرض عملتها على الصعيد الدولى، على اعتبار أن إحكام الدولار قبضته على أسواق النفط قد استغرق نحو أربعة عقود، ولذا فالصين تتحرك بهدوء وبطء وحذر من أجل قضم سيطرة العملة الأمريكية على الاقتصاد العالمى، وتفكيك العلاقة بين الأخير والدولار على مراحل تدريجية، ولا تبحث فى هذه المرحلة عن عوائد تجارية واقتصادية سريعة، بل تسعى إلى هدف استراتيجى بعيد المدى، وصولاً إلى التأثير فى هيمنة الدولار على احتياطات العملات الدولية، وهنا فقط يمكن أن يبدأ التأثير القوى فى مكانة وهيبة الولايات المتحدة وسيطرتها على النظام العالمى القائم، لاسيما أن المنافسة تأتى من اليوان الذى أصبح يحتل المرتبة الثالثة فى الاحتياطات العالمية بعد الدولار واليورو منذ نوفمبر عام 2016.
المعروف أن الدولار يعتبر أحد رموز المكانة والهيبة والسيطرة والهيمنة الأمريكية، ومن ثم فإن نجاح الصين فى إدخال عملتها كشريك تدريجي منافس للدولار، سيأتى خصماً من الرصيد الأمريكى، استراتيجياً واقتصادياً على حد سواء.
أرجحية الخطط الصينية لفرض اليوان تتزايد بتزايد القوة الشرائية الصينية للنفط، فضلاً عن تحول الولايات المتحدة من مستهلك إلى مصدر للنفط بسبب النفط الصخري، ما يدفع بعض الخبراء للقول بأن فكرة تحديد سعر النفط عالمياً باليوان باتت تخضع لتوقعات جدية.
لاشك أن تزايد التبادل التجارى الصينى باليوان، وتسعير النفط باليوان سيجبر البنوك المركزية فى الدول على زيادة احتياطاتها من العملة الصينية سواء لتمويل وارداتها من المنتجات الصينية، أو تحسباً لأي ظروف تتطلب جعل اليوان ضمن سلة عملات، وهذا يصب في مصلحة العملة الصينية بوتيرة متسارعة، وهذا التوجه يضاعف مكانة الصين الاقتصادية عالمياً، وبالتبعية استراتيجياً.
لم يزل الطريق طويلاً امام الصين، فلا تزال حصة اليوان من التبادل التجاري العالمي دون ألـ 5% بينما نحو 45% من التجارة العالمية يتم بالدولار، أضف إلى ذلك أن قوة العملة تنبع من قوة الاقتصادات، والاقتصاد الأمريكي في عنفوانه، ولا يعني تزايد حصة اليوان أن الدولار على وشك الانهيار وترك الساحة خالية للعملة الصينية.
الحقيقة أن الأقرب للمنطق والتصور هو تراجع هيمنة الدولار تدريجياً على الاقتصاد العالمي، وحتى هذا التراجع سيكون بطيئاً وتدريجياً ولكن تبقى وتيرة التراجع مرهونة إلى حد كبير بسريان فكرة تسعير النفط بالدولار.
هناك نقطة فى غاية الأهمية أيضاً تتعلق بموقف الولايات المتحدة، التي لن تقف مكتوفة الأيدي امام محاولات الصيني النيل من أحد رموز هيبة الولايات المتحدة ومكانتها عالمياً، وهو الدولار، الذي يعد أداة أمريكية للسيطرة على الاقتصاد العالمى، وبالتالى ترجمة هذه السيطرة إلى آليات للهيمنة وفرض العقوبات الاقتصادية وغير ذلك من أدوات، والأرجح أن هذا التنافس سيغذي حرب العملات التي بدأت بوادرها في الظهور خلال الأشهر الأخيرة.
والمسألة هنا لا تقتصر على الاقتصاد، بل تلعب فيها السياسة والاستراتيجية دوراً كبيراً، فالصين تتحرك في فضاء دولي يرفض أو يتحفظ على السياسات الأمريكية، وبالتالي فإن الفرصة مواتية للغاية لحلفاء واشنطن في منطقة الخليج العربي أن يعززوا موقفهم في الشراكة القائمة مع الجانب الأمريكي، نظراً لأن سياسات الولايات المتحدة لم تعد تلق قبولاً واسعاً كما كان في السابق، وبالتالي فإن حلفاء الولايات المتحدة يمكن أن يعيدوا دراسة مواقفهم وجرد حسابات الربح والخسارة ليس من أجل الانخراط بسرعة في المخطط الصيني لهيمنة اليوان، ولكن من أجل الحصول على مقابل استراتيجي أمريكي يوازي دعمهم القوي للدولار ومساندتهم له في هذه الظروف .