ندرك جميعاً أن الهتاف باسم الله يمثل قاسماً مشتركاً عند تنفيذ معظم الجرائم الإرهابية، وتحديداً تلك التي تنفذها عناصر إرهابية متطرفة في دول غربية، وأخرها الاعتداء بسكين على اثنين من الحراس في غرب فرنسا واصابتهما بجروح، حيث أكدت التحقيقات الفرنسية أن المتهم هاجم موظفي أحد السجون هاتفاً "الله أكبر"، واعتبرته "إسلامياً اعتنق التطرف"، علماً بأن المتهم سجين يمضي عقوبة السجن لمدة 30 عاماً لادانته بجرائم خطف وسطو مسلح!
هذه الجريمة ليست جديدة من حيث اعتناق بعض المجرمين للفكر الإرهابي المتطرف داخل السجون في دول غربية، حيث حكم هذا المتهم بسنة إضافية داخل محبسه بسبب تمجيده للارهاب، حيث احتفى بـ "إعادة تمثيل" الهجوم الإرهابي الذي وقع عام 2015 على حفل الموسيقى في باتاكلان في باريس، والذي أسفر عن مقتل 90 شخصاً، ولكن الجزئية الجديدة فيها أنها ارتكبت بسكين من الخزف، أي أن المتهم قد تحايل على أجهزة التفتيش التي تكشف المعدن وقام بتهريب سكين من الخزف لارتكاب جريمته، وهذه مسألة تمثل تحدياً جديداً لأجهزة الأمن في تفتيش ركاب الطائرات وغيرها.
الإشكالية الأساسية بالنسبة لنا في العالم الإسلامي في مثل هذه التصرفات أنها تمثل إساءة بالغة للدين الإسلامي الحنيف، وتربطة، زوراْ وظلماً في عيون شرائح كثيرة من الشعوب الغربية، بالإرهاب، بحيث يبدو الحديث عن الإسلام مرادفاً للارهاب وجرائمه، كما في هذه الحالة.
من هنا أنظر للأهمية البالغة لوثيقة الأخوة الإنسانية، التي وقعها خلال شهر فبراير الماضي في دولة الامارات، شيخ الأزهر الأمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب وقداسة البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، برعاية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، واخيه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حيث صدرت هذه الوثيقة لتعبر عن رمزين كبيرين يمثلان أكثر من نصف سكان العالم، وذهبت مباشرة من دون مواربة إلى تحقيق ومشتركات حضارية وإنسانية نبيلة، في مقدمتها تبرئة اسم المولى عزوجل من الارتباط بأي جرائم إرهابية، حيث كانت أول كلمة الوثيقة "باسم الله الذي خلق البشر جميعا متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاهم للعيش كإخوة فيما بينهم ليعمروا الأرض، وينشروا فيها قيم الخير والمحبة والسلام" لتؤكد أن الأديان جميعها قائمة على الأخوة الإنسانية، وأن هدف البشر جميعاً إعمار الأرض ونشر السلام لا التخريب والفساد والإفساد.
كما لابد ان اشير إلى فقرة في غاية الأهمية وردت في الوثيقة ذاتها، وتستحق بالفعل أن نسلط الضوء عليها وأن تصل إلى العالم، لأهميتها البالغة في تفكيك العلاقة المزعومة والمفتعلة بين الإسلام تحديداً وبين الإرهاب، وتقول هذه الفقرة الناطقة باسم رمزي الإسلام والمسيحية: "نعلن - وبحزم - أن الأديان لم تكن أبدا بريدا للحروب أو باعثة لمشاعر الكراهية و العداء و التعصب، أو مثيرة للعنف وإراقة الدماء، فهذه المآسي حصيلة الانحراف عن التعاليم الدينية، ونتيجة استغلال الأديان في السياسة، وكذا تأويلات طائفة من رجالات الدين - في بعض مراحل التاريخ - ممن وظف بعضهم الشعور الديني لدفع الناس للإتيان بما لا علاقة له بصحيح الدين، من أجل تحقيق أهداف سياسية واقتصادية دنيوية ضيقة؛ لذا فنحن نطالب الجميع بوقف استخدام الأديان في تأجيج الكراهية والعنف والتطرف والتعصب الأعمى، والكف عن استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش؛ لإيماننا المشترك بأن الله لم يخلق الناس ليقتلوا أو ليتقاتلوا أو يعذبوا أو يضيق عليهم في حياتهم ومعاشهم، وأنه - عز وجل - في غنى عمن يدافع عنه أو يرهب الآخرين باسمه"
نص مباشر ورائع في البيان سواء في فضح دوافع الفكر الإرهابي المتطرف، أو لجهة انهاء أي علاقة يروج لها الإرهاب والتطرف بين اسم الله الذي يزعم الحديث باسمه، وبين أفعالهم وممارساتهم الاجرامية.
والرائع أيضاً أن الوثيقة لم تكتف بذلك في ملاحقة الفكر المتطرف واثبات كذبه وادعاءاته بل ذهبت أيضاً إلى ذهبت إلى القول "إن الإرهاب البغيض الذي يهدد أمن الناس، سواء في الشرق أو الغرب، وفي الشمال والجنوب، ويلاحقهم بالفزع والرعب وترقب الأسوأ، ليس نتاجا للدين - حتى وإن رفع الإرهابيون لافتاته ولبسوا شاراته - بل هو نتيجة لتراكمات الفهوم الخاطئة لنصوص الأديان وسياسات الجوع والفقر والظلم والبطش والتعالي" لتجمع بذلك جميع أسباب التطرف والإرهاب وتضعها في نص تاريخي يجمع كل خبرات المرجعيات الموقعة عليه ورؤاها وتصوراتها لأسباب الظاهرة الإرهابية في الماضي والحاضر.
وإذا كان مؤتمر وزراء خارجية دول منظمة التعاون الإسلامي الذي عقد مؤخراً في أبوظبي قد أكد على أهمية هذه الوثيقة التاريخية، فإن خطر الإرهابي المتفشي في أرجاء العالم يتطلب تحركاً واستجابة قوية من جانب الأمم المتحدة ومنظماتها للأخذ بمبادئ ومنطلقات هذه الوثيقة من أجل القضاء على جذور التطرف وتحرير الأديان من خاطفيها ومن يزعمون الحديث باسمها، كي يمكن بناء أساس قوي لتحرك عالمي فاعل يتعاطى مع الإرهاب بوصفه ظاهرة إجرامية محضة تتطلب تصدياً قانونياً وأمنياً وفكرياً، كما تتطلب جهوداً مكثفة لتجفيف منابعها وحظر تمويلها ورعاية قادتها ورموزها ومن يوفرون منصات إعلامية ودعائية لها، بل حتى من يستخدمونها أو يوظفونها لتحقيق أهداف سياسية من الدول، باعتبار ذلك طوق النجاة الوحيد للقضاء على الفوضى التي أفرزها الإرهاب في السنوات الأخيرة.