ظل الباحثون والمتخصصون ينظّرون طيلة السنوات والعقود الماضية حول القواعد والمبادىء والمعايير الحاكمة للنظام العالمي القائم، والمؤسسات والمنظمات التي تجسد فكر هذا النظام وتنفذ تلك القواعد والمبادىء والمعايير وتسعى لضبط ايقاع "النظام" وتعمل على إدارته وأن هناك "هرم" للقوة تتربع على قمته دولة ويتصارع منافسون آخرون للوصول إلى تلك القمة وازاحة القطب العالمي القابع عليها أو مزاحمته أو تقاسم القمة معه، بما يعنيه ذلك من تقاسم للسلطة والهيمنة والنفوذ عالمي ، ولكن جاء تهديد عارم من خارج إطار البحث الاستراتيجي ليكشف للجميع سوءات هذا النظام ويؤكد هشاشة مؤسساته والضعف الذي يعتري منظماته.
وعندما اتحدث عن تهديد فيروس "كورونا" للعالم أجمع لا اعني بالضعف المؤسسي منظمة الصحة العالمية التي تبلي بلاءاً حسناً في التصدي لهذا الخطر الصحي الداهم، ولكني أعني رأي هرم هذا النظام ومؤسساته، وهي الأمم المتحدة التي لم نسمع لها صوتاً ولم نر لها دوراً في إدارة هذه الأزمة وغابت تماماً عن حدث يؤثر في مختلف الدول الأعضاء فيها بدرجات متفاوتة، كبيرهم وصغيرهم، فالكل في مواجهة هذا التهديد يعاني بدرجات مختلفة.
قد يقول قائل، وما علاقة الأمم المتحدة بخطر صحي؟! وهنا لا أعني أن تقوم المنظمة الدولية الأم بدور تخصصي مكمّل أو داعم لإحدي منظماتها (الصحة العالمية)، ولكني اعني أن لها دور في حشد طاقات الدول الأعضاء وتنسيق وقيادة التعاون الدولي في مواجهة هذا الخطر بدلاً من الفوضى العارمة التي تجتاح المشهد الدولي في مختلف القطاعات الاقتصادية والصحية وغيرها!
المناشدات والنداءات تصدر في الشرق والغرب من أجل تعاون دولي فعّال في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة، ولكن الآذان لا تسمع ولا مجيب لهذه النداءات والمناشدات، بل نرى صراعات على الهيمنة والنفوذ العالمي والتطلع لما بعد كورونا من عواصم كبرى عالمية، كما نسمع أصواتاً وآراء بل ووقائع تجسد السقوط الانساني البشع في أسوأ تجلياته، ولاسيما ما يتعلق بالتضحية بكبار السن والمرضى في حال تطلب الأمر المفاضلة بين حياتهم وحياة الشباب! غابت حقوق الانسان التي كانت المدخل الأثير للغرب للتدخل في شؤون دول عدة والضغط على أنظمة الحكم من أجل الحفاظ عليها ومراعاتها! وتراجع الحديث عن الانسانية وظهرت الأنا في أبشع صورها ليس على مستوى الأفراد فقط بل على مستوى الدول، حيث غاب التعاون وانهارت كثير من القيم والمبادىء التي تشدق بها الكثيرون وسرعان ما انكشف اللثام في ساعات الخطر!
الخوف الانساني مسألة مفهومة ومقدرة تماماً، ولكن الدول الخائفة ربما تمثل ظاهرة جديدة في عالم السياسة، لأن الخوف هذه المرة ليس من حرب ضروس ولا هزيمة عسكرية مدمرة، ولكن من وباء تفشى في العالم ويحتاج إلى وعي سياسي يطبق استراتيجية يفترض أنها في جاهزة في الأدراج لإدارة الأزمات.
ولاشك أن الارتباك وسوء إدارة الأزمة الذي تفشي جنباً إلى جنب انتشار فيروس كورونا قد أصاب دعاة العولمة بالإحباط واليأس لأن هذه الظاهرة التي كانت تمثل شعاراً للعالم في القرن الحادي والعشرين قد اصيبت بضربة قاصمة ثانية بعد انتشار سياسات الحمائية والانعزالية في دول كبرى عدة، حيث اتجه العالم إلى إغلاق الحدود ووقف الطيران وغاب التفكير التعاوني بين الشركاء الاستراتيجيين والحلفاء التقليديين وطغت قرارات اغلاق الأجواء والحدود على ماعداها من سياسات وتحالفات ومصالح وشراكات!
صحيح أن الخسائر ـ ولاسيما الاقتصادية والتجارية منها ـ باهظة وأمد الأزمة الناجمة عن تفشي فيروس "كورونا" غير معلوم ويصعب التنبؤ بنهايتها بدقة، ولكن التاريخ البشري حافل بمثل هذه الأزمات الناجمة عن تفشي الأوبئة، وكنا نظن أن التقدم والتطور العلمي قد أنتج منظومات متطورة للتعامل الجماعي الدولي مع مثل هذه الأزمات للحد من خسائرها وتحجيم آثارها الانسانية على الأقل، ولكن الحقيقة كشفت عن وجه بائس للعالم حيث ساد التشفي والشماتة حيناً، وحيث ارتفعت أصوات الاتهامات المتبادلة حيناً آخر، وحيث كشف الحدث عن شعوب تفرط في الغيبيات، وأخرى غارقة في نظرية المؤامرة حتى النخاع!