يمثل طرد فريق طبي تابع لمنظمة "أطباء بلا حدود" كان يساعد في التصدي لانتشار فيروس "كورونا"، من إيران نموذجًا للتفكير التآمري الكارثي والتجاهل التام لمصالح الشعوب بل وصحتها وحياتها لأن الأمر لا يتعلق بمساعدات انسانية وغذائية بل بانقاذ أرواح وحياة عشرات الآلاف من الضحايا الذين يدفعون ثمنًا باهظًا لسوء إدارة الأزمة والإصرار الرسمي على التعتيم وتغييب الصراحة والمكاشفة التي كان يمكن لها أن تسهم في انقاذ الكثير من الضحايا الذين قضوا نحبهم في هذه الكارثة الصحية.
تقول المنظمة الدولية غير الحكومية أنها حصلت على تصاريح رسمية من قبل السلطات الإيرانية للبدء في تدشين مستشفى ميداني لعلاج مصابي كورونا في أصفهان، ثاني محافظة إيرانية متضررة بالفيروس القاتل بعد العاصمة طهران، وأيدت جهات إيرانية بينها اللجنة الوطنية لمكافحة "كورونا"، ومكتب التعاون الدولي بوزارة الصحة، الحصول على مساعدة منظمة "أطباء بلا حدود" في أزمة كورونا، وفق وثائق نشرتها صحف إيرانية عدة، ولكن كان للملالي المتشددين رأي آخر، لأن هؤلاء لا ينظرون لأي اعتبارات تتعلق بمصلحة الشعب الايراني، بل يخضعون لأوهامهم ويزايدون على تفكير المرشد الأعلى، الذي رأى في الفيروس مؤامرة أمريكية تستهدف جينات الشعب الايراني! فما كان من الأتباع سوى طرد ما يمت للغرب بصلة ومنهم فريق طبي جاء يقدم يد العون الصحي للشعب الايراني، الذي تؤكد التقارير الاعلامية الايرانية ذاتها أنه يعاني نقصًا حادًا في الأسرّة الطبية، وأن "أطباء بلا حدود" قد أسهمت في تدشين مستشفى ميداني وكان يستعد لتجهيز وحدات للعناية المركزة.
يقول المتحدث الرسمي للحكومة الإيرانية، علي ربيعي، في تغريدة نشرها على موقع "تويتر" إن "رحلة المنظمة الدولية المستقلة لأطباء بلا حدود (MSF) إلى إيران تم تنسيقها بالكامل مع الإدارات ذات الصلة في الجمهورية الإسلامية". ويضيف "أنه على الرغم من عدم وجود نقص في أسرة المستشفيات حاليًا للعناية المركزة في البلاد، إلا أن المعدات التي قدمها أطباء بلا حدود (50 سريرًا) سيتم استخدامها في تلك المستشفيات حيث تحتاجها وزارة الصحة الإيرانية". وبعدها عاد وزير الصحة الايراني علي رضا وهاب زادة ليقول "لسنا بحاجة لإنشاء مستشفيات ميدانية من قبل الأجانب ونرفض حضور هذه المنظمة".
بين قبول مساعدة "أطباء بلا حدود" وطردهم يكمن السر في استدعاء قول المرشد الأعلى علي خامنئي أن حلفاء الولايات المتحدة مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا "لا يمكن الوثوق بهم"، وانهم يعملون على "خدمة أمريكا بشكل واضح"، ويريدون "تركيع الشعب الإيراني".
بعد وصول الفريق الطبي الذي تمت الموافقة عليه رسميًا إلى إيران، شن متشددو الملالي حملة ضد هذا الفريق استنادًا إلى تصريحات المرشد الأعلى، ووصف حسين شريعتمداري مدير تحرير صحيفة "كيهان" الموالية لخامنئي منظمة "أطباء بلا حدود" بأنها "دمية أمريكية" وكأنهم اكتشفوا فجأة أنها فرنسية الهوية، ومن ثم قاموا على الفور باستدعاء حديث خامنئي عن أن "أمريكا تعلم أنه لا مكان لها في إيران ولا يمكن أن يكون لها وجود هنا"، وبالتالي افترضوًا أن الأطباء التسعة التابعين للمنظمة ومساعدوهم تابعون للاستخبارات الأمريكية وكأنهم يعملون في فراغ وقادرون على تنفيذ مؤامرات داخل إيران بمعزل عن عيون مخابرات وعناصر الحرس الثوري الايراني!
شريعتمداري هو من افترض أن "أطباء بلا حدود" لا يمكن الوثوق بها لأن "مقرها فرنسا ولأن جميع الجماعات المعادية لإيران لها قاعدة في فرنسا"! وهذا الأمر يعكس حجم الاستخفاف بمقدرات ومصير الشعب الايراني من جانب الملالي لأن مواجهة الجائحة التي تغتال مئات الايرانيين يوميًا لا تتطلب مثل هذا التفكير العبثي، الذي يتجاوز حدود المنطق والمعقول ويذهب إلى مساحات لا يمكن وصفها سوى بالاستهتار واللامبالاة في التعامل مع مصائر الشعوب.
الأرجح، كما اعتقد، أن الملالي أرادوًا في هذه الظروف إرسال رسالة للأوربيين فلم يجدوا سوى طرد الفريق الطبي التابع لمنظمة تعمل داخل إيران منذ سنوات، وتجاهلوا تمامًا أن هذا هو الوقت الأسوأ لهذه الرسالة التي جاءت على حساب مصلحة آلاف الايرانيين الذين يعانون تفشي وباء جامح يعصف بالآلآف منهم.
الحقيقة أن طرد الفرق الطبية بعد استدعائها، ثم رفض عروض المساعدات التي أعلن الاتحاد الأوروبي عزمه تقديمها لإيران لا ينتمي للسياسة في شىء بل هو ممارسات تتسم بالتسرع والرعونة والسذاجة المفرطة، لأن السياسة تعني عدم خلط الأوراق واجادة اختيار أوراق اللعب والضغط وكذلك التوقيتات والظروف بما يتطلبه كل ذلك من مرونة ودينامية تضمن للشعوب تحقيق أقصى قدر من المصالح وتفادي الخسائر قدر الامكان، هذا إن كانت الشعوب هي الهدف الحقيقي للسياسة وليس الأنظمة والأفراد ومصالحهم ورؤاهم الذاتية التي تطغي عليها الانانية.
الخلط بين السياسة والصحة لا يقل خطورة عن الخلط بين الدين والسياسة، وأي خلط للأمور هو خلط ممجوج، لا علاقة له بالتفكير الاستراتيجي المدروس، بل بسياسات ديماجوجية تدغدغ مشاعر اتباع وأنصار الأنظمة الأيديولوجية من دون أدنى اعتبار لمصالح الشعوب وملايين المتضررين من هذه السياسات الكارثية.