نقرأ جميعاً في مناسبات وأحداث مختلفة مفاهيم وعبارات مطاطة مثل "الأمن والاستقرار العالميين" و "التهديد العالمي" وتطور نقاشات موسعة في المركز البحثية وعبر برامج ألـ "توك شو" الفضائية حول مصادر التهديد وسيناريوهات الخطر ورؤاها المستقبلية التي لم يكن من بينها على الاطلاق أي نقاش حول حالة تفشي وباء عالمي. والمعلوم أن السينما
العالمية قد سبقت معاهد ومراكز الدراسات في طرح سيناريوهات مستقبلية لتفشي الأوبئة والحروب والصراعات البيولوجية وغير ذلك من تهديدات حقيقة وأخرى محتملة تواجه العالم.
وفي اللحظة الراهنة التي تواجه فيها البشرية جميعاً خطر انتشار متسارع لجائحة "كورونا" انتشرت على نطاق واسعة نقاشات بحثية واعلامية موازية حول التداعيات المحتملة لهذا الوباء، وملامح مرحلة مابعد هذه الأزمة العالمية التي أصابت الاقتصاد العالمي بالشلل التام، وتنذر بتأثيرات وتبعات قاسية على معظم الاقتصادات الوطنية في دول العالم جميعها، شرقاً وغرباً.
والحقيقة أن النقاش العلمي الموضوعي لما حدث على صعيد إدارة الأزمات العالمية خلال العقدين الماضيين يمكن أن يخلص لنتائج ودروس مهمة علينا استيعابها، أهمها، من وجهة نظري، استغراق العالم أجمع في مناقشة والتصدي لخطر واحد فقط يتمثل في انتشار ظاهرة الارهاب العالمي والتطرف والتشدد المحسوب على الدين، والتي تمثل بالفعل مصدر تهديد بشع للدول والمجتمعات كافة، ولكنها ليست مصدر التهديد الوحيد، ولم يكن من المنطقي حصر معظم النقاشات البحثية والجهود العلمية والأكاديمية في دراسة أبعاد الظاهرة والتعرف إلى حدود تأثيراتها، مهما تعاظم خطرها وتأثيراتها الدموية البشعة والمرفوضة، لاسيما أن الأمر قد تحول في كثير من الأحيان إلى مظهر من مظاهر التكرار واجترار الأقوال واعادة انتاج الدروس والخلاصات ذاتها في المؤتمرات والندوات والنقاشات كافة التي تمحورت حول خطر الارهاب وتنظيماته المتطرفة.
لم يكن الخطأ متمثلاً في تعميق النقاش النخبوي والمجتمعي حول ظاهرة الارهاب بطبيعة الحال، بل كان في حصر مصادر التهديد التي تواجه العالم في هذه الظاهرة، وترك مصادر تهديد عالمية أكثر خطورة مثل تفشي الاوبئة من دون نقاش عالمي جاد حول سبل التصدي لمثل هذه الأخطار المحتملة واعداد سيناريوهات مناسبة لذلك؛ وفي تفسير ذلك يرى فريق من الباحثين أن تفشي الأوبئة كان ـ حتي الأمس القريب ـ مصدر تهديد واضح ولكن كان هناك اعتقاد أو قناعة بأنه خطر يتعلق بالدول والشعوب الفقيرة، أو ماكان يعرف بدول العالم الثالث او شعوب الجنوب، باعتبار أن الأوبئة أحد أعراض أو مضاعفات متلازمة الفقر والجهل وضعف الوعي والزيادات السكانية الكبيرة، وبالتالي لم تكن الدول المتقدمة تكترث كثيراً بهذا الخطر، سوى في مجال دراسة خطر الحروب البيولوجية، أي أنها كانت تأخذه بالاعتبار ولكن على الصعيد العسكري، وليس على المستوى الصحي في ضوء ما كانت تعتبره تطوراً لمنظوماتها الصحية الوقائية والعلاجية، وقدراتها الكبيرة في مجال الرعاية الصحية ورسم الخطط الاستباقية لذلك.
ربما تحمل وجهة النظر هذه قدراً من الصواب والوجاهة لأننا شاهدنا كيف لم يكثرت العالم بحالات تفشي أوبئة على نطاقات جغرافية واسعة مثلما حدث على سبيل المثال عند تفشي وباء "ايبولا" في غرب القارة افريقيا منذ سنوات قلائل مضت، حيث حصد أرواح مالا يقل عن 11 ألف ضحية، ولم يظهر العالم ـ وقتذاك ـ مايكفي من تضامن لمحاربة هذا الوباء القاتل، ولم ينتبه العالم إلى أن ضعف الأنظمة الصحية يمثل كارثة بكل المقاييس في حال ظهور أحد الأوبئة وانتقالها سريعاً لكل الدول كما حدث بالفعل في تفشي "كورونا".
بعيداً عن صواب وجهة النظر هذه، فإنني أعتقد أن ماحدث قد عكس تفكيراً عالمياً غير صائب، حيث تناست الدول التي تمسي وتُصبح على نقاشات معمقة حول القرية الكونية الصغيرة، كما أسماها العالم الكندي مارشال ماكلوهان، وآثار ظاهرة العولمة، وتأثيرات حركة السفر والسياحة والطيران في نقل الأوبئة والفيروسات كما حدث مع "كورونا"، وبالتالي فقد غرق العالم في الأسابيع الأولى لتفشي الفيروس في الصين في نظرية المؤامرة تارة، وفي أجواء الشماتة والتشفي وانتظار عواقب الأزمة على الصعود القطبي الصيني المتسارع تارة أخرى!
الحقيقة أن الأسابيع الأولى من تفشي "كورونا" كانت فترة غياب للعقل العالمي وطغيان للحسابات السياسية على التفكير الانساني، حتى وقعت الواقعة وخرجت الأمور عن السيطرة وانتقلت بؤر الوباء من الشرق إلى الغرب ليتعلم الجميع الدرس الأهم وهو أن الأوبئة لا تعرف الجغرافيا ولا تجيد قراءة خرائطها.