لست أدري كيف أن العالم الذي يردد منذ سنوات أحاديث وحوارات حول نهاية جغرافيا المكان بفعل العولمة وسيادة وطغيان فكرة القرية الكونية الصغيرة؟ كيف له أن يسقط في فخ استبعاد انتقال وباء «كورونا» من الصين إلى دول الشرق والغرب جميعها؟! وكيف لعالم يعتمد على «المصنع الصيني» لهذه القرية أن يستبعد إغلاق هذا المصنع وتجميد إنتاجه لفترة وجيزة لسبب طارئ؟ وكيف تسبب فيروس لا يرى بالعين المجردة بأن ينتج عاصفة من إعادة التفكير في كثير من الثوابت والمسلمات التي آمن بها العالم لسنوات طويلة؟!
الحقيقة التي يصعب إنكارها أن العالم الذي اجتاز أشواطا طويلة في مسيرة العولمة قد فشل في أول اختبار حقيقي جماعي لهذه الظاهرة، فقد أخفقت منظومات التعاون الدولي القائمة بجدارة في التصدي لأول خطر يهاجم العالم بأكمله في العصر الحديث، فالفيروس الذي قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش إنه «أكبر تحد يواجهه العالم منذ الحرب العالمية الثانية»، وإن الأزمة الناجمة عنه ستتسبب بحالة كساد اقتصادي غير مسبوقة في الماضي القريب، لا يزال يواجه بإجراءات على المستوى الفردي، لا الجماعي، للدول. صحيح أن هناك تعاونا فاعلا غير مسبوق - استراتيجيا - بين دول مثل روسيا وخصومها الأطلسيين التقليديين مثل إيطاليا وفرنسا، وكذلك بين الصين ودول غربية عدة، ولكن لا تزال الشكوك والاتهامات حول المسؤولية عن تفشي الوباء هي المسيطر على الأقل داخل الأوساط الإعلامية والبحثية لدى الجانبين.
وإذا كانت الأمم المتحدة لا تمتلك آليات حقيقية فاعلة في التصدي لمثل هذه الأزمات سوى دور تنسيقي محدود تضطلع به منظمة الصحة العالمية، وإذا كان العالم قد أخفق في المبادرة بإنشاء منظومة تعاون وتنسيق فاعلة في مواجهة «كورونا» فإن عليه الآن تدارك الخطأ والإسراع بالبحث عن آليات تعاون عالمية فاعلة تؤسس لبناء قدرات عالمية أفضل للتعافي من آثار الأزمة، وتقود الجميع نحو معالجة هذه الآثار والخروج منها بأقل قدر من الخسائر، انطلاقا من تضامن عالمي يبدأ من خطط فاعلة لتهدئة منحنى العدوى المتصاعد من خلال إجراءات جماعية حازمة وصارمة تحول دون إصابات الملايين حول العالم بالفيروس، وتحمي الأنظمة الصحية في الدول كافة من الانهيار، بما يمكن أن ينتج عن ذلك من كوارث صحية قد لا تقتصر على «كورونا»، بل تطال قائمة طويلة من الأمراض المزمنة وانتشار العدوى بفيروسات أخرى قد يكون من بينها ما هو أشد ضررا وكارثية من «كورونا»، ناهيك عن الآثار الاقتصادية والنفسية والاجتماعية لكل ذلك على الشعوب والمجتمعات والدول.
النصيحة التي يرددها كثيرون حول العالم الآن هي ضرورة الاستعداد للأسوأ في سيناريوهات تفشي «كورونا»، في ظل عدم وجود لقاحات واقية أو علاجات للفيروس حتى الآن، وفي ظل معاناة الدول كثيفة السكان وصعوبة السيطرة على الوباء بين سكانها، علاوة على الأبعاد والتداعيات الاجتماعية والاقتصادية العالمية الخطيرة لكل سيناريو من هذه السيناريوهات.
والسيناريو الأخطر الذي يجب أن يعمل العالم على تفاديه بالفعل - كما قال الأمين العام للأمم المتحدة - هو تفشي الوباء بصورة أوسع في دول الجنوب الفقيرة، التي لا يمكنها التصدي لخطر فشلت الأنظمة الصحية المتقدمة والإمكانات والموارد الكبيرة للدول الكبرى في وقف خطورته، فضلا عما تعانيه هذه الدول من تكدس وازدحام سكاني.
العالم الآن لا يمتلك قدرات مؤسسية متخصصة قادرة على إدارة أزمة بهذا الحجم الهائل، ولكن لديه مؤسسات قادرة على التنسيق العالمي في مواجهة الوباء، ومن الممكن الاستعانة بالمؤسسات المالية الدولية لحشد الموارد وتوزيعها على الدول التي تحتاج إليها، ففي مواجهة ظروف غير عادية يجب العمل وفق إجراءات غير عادية ومن خلال إجراءات استثنائية وآليات غير تقليدية.
أدرك أن العالم يحتاج - في هذه الظروف - إلى معجزة بيولوجية تنقذ الملايين من الإصابة بالفيروس، أو معجزة تنظيمية قيادية توفر له القدرة على العمل الجماعي التكافلي في مواجهة خطر «كورونا»، خاصة في ظل وجود ميل بعض الأطراف للتوظيف السياسي للأزمة، سواء عبر حزم المساعدات الصحية والمالية، أو لأن أطرافا أخرى تظهر من الشماتة والتشفي السياسي أكثر مما تظهر من رغبة حقيقية في إنقاذ العالم من هذا الفيروس اللعين، ولكن يبقى الرهان على عقلانية وحكمة بعض القادة والزعماء في قيادة العالم نحو بر الأمان في هذه الظروف الصعبة، حيث تثبت التجارب التاريخية أن القادة والحكماء يولدون من رحم الأزمات.