في ظل عدم التوصل إلى لقاحات وعلاجات للتصدي لتفشي فيروس كورونا (كوفيد ـ19) عالميا، وبموازاة تفاقم الآثار الاقتصادية والاجتماعية وحتى النفسية لاستمرار وضع الإغلاق الراهن في معظم دول العالم، اتجه كثير من دول العالم للبحث بسرعة عن استراتيجيات للخروج من هذا الوضع، وإعادة النظر في سياسة الإغلاق التام مع التهديد الذي قد يستمر لأشهر أو مدة زمنية غير معلومة حتى الآن.
الولايات المتحدة التي تخطت عتبة الـ 700 ألف إصابة مسجلة بالفيروس بحسب تعداد جامعة «جونز هوبكنز» الأمريكية، تعاني وضعا صحيا متفاقما منذ نهاية مارس الماضي، كونها البلد الأكثر تأثرا بالفيروس في العالم، ومع ذلك اتجهت إدارة الرئيس ترمب إلى الإعلان عن رغبتها في أن تستأنف سريعا حملته للانتخابات الرئاسية التي توقفت جراء انتشار فيروس كورونا المستجد، وقال الرئيس الساعي إلى الفوز بولاية رئاسية ثانية، خلال مؤتمر صحفي في البيت الأبيض «آمل أننا سنتمكن من عقد تجمعات (انتخابية)، هذا جيد جدا للبلاد».
في مثل هذه الظروف التي تعطلت فيها قطاعات كاملة من الاقتصاد الأمريكي، يبدو الرئيس ترمب الأكثر شعورا بالقلق خشية أن يكون ضحية للأزمة بعد تراجع شعبيته بحسب استطلاعات الرأي الأخيرة، لذا فقد بادر لعرض خطته «لإعادة فتح أمريكا» على ثلاث مراحل، تبعا لخطورة وباء كوفيد-19 في كل ولاية، حتى إنه اعتبر أن هذا القرار بمنزلة «تحرير» لبعض الولايات المتحدة التي تضخ لحكم الديمقراطيين، حيث كتب ترمب تغريدات مثل «حرروا مينيسوتا»، «حرروا ميشيغان» و»حرروا فيرجينيا».
استراتيجيات الخروج من الأزمة لا تقتصر على الولايات المتحدة بل تطال أوروبا، حيث أعلنت السلطات الألمانية أن الوباء بات تحت السيطرة بعد شهر من القيود على الاختلاط الاجتماعي التي فرضتها السلطات، كما باشرت الدنمارك رفع تدابير الحجر المنزلي، فأعادت فتح المدارس بشكل متدرج ووفق خطة زمنية محددة، فيما أعلنت النمسا وإيطاليا اعتزامهما إعادة فتح بعض المتاجر غير الأساسية، وأعلنت سويسرا عن رفع بطيء وتدريجي للحجر ابتداء من 27 أبريل الحالي. إجراءات الخروج التدريجي من الأزمة شملت أيضا إسبانيا وإيطاليا الدولتين الأكثر تضررا في أوروبا من تفشي الفيروس، وكذلك فرنسا التي توفي 17 ألفا فيها بالفيروس، حيث تعد البلاد خطتها لرفع إجراءات العزل تدريجيا ابتداء من 11 مايو.
الحقيقة أن استمرار التهديد الصحي القائم بات يطرح إشكالية جدلية تتعلق بالمواءمة بين الخطر الصحي وتفادي الأضرار الأخرى، مثل انهيار الاقتصادات أو على الأقل تأثرها بدرجة تحد من قدرتها على استعادة فرص النمو في المستقبل المنظور، وتزايد رقعة الفقر والجوع، وما يعنيه ذلك من احتمالية تفجر اضطرابات اجتماعية، وفي البحث عن استراتيجية للخروج من هذا المأزق تتجه شركات صناعة السيارات الألمانية لإعادة تشغيل بعض مصانعها التي ظلت متوقفة عن الإنتاج لأربعة أسابيع بسبب تفشي فيروس كورونا، وتسعى بعض من هذه الشركات إلى التعايش نسبيا مع الخطر، وتطويع بيئة العمل لمراعاة الظروف المستجدة وتوخي مسافة الأمان ومتابعة الالتزام بالتباعد الاجتماعي، لدرء خطر الوباء حال استمر.
استراتيجية الخروج في الولايات المتحدة، كما بعض الدول الأوروبية الأخرى، تعتمد على إعادة فتح الاقتصادات بحذر ووفق نهج متدرج يستجيب للظروف لتفادي الإغلاق طويل الأجل الذي يهدد بإلحاق خسائر شديدة بالاقتصادات وبالأفراد أيضا، حيث حذر الرئيس الأمريكي من ارتفاع حاد في تعاطي المخدرات والكحول، وتزايد أمراض القلب ومشاكل أخرى «جسدية وصحية».
هذه الجدلية تحدث عنها بشكل مباشر السيناتور الجمهوري الأمريكي تيري هولينغزورث، حين قال إن السماح بمقتل مزيد من الأمريكيين بفيروس كورونا، يعتبر «أهون» من ضرر الاقتصاد الناجم عن إجراءات العزل، ووصف إعادة فتح الاقتصاد الأمريكي قريبا بـ»أهون الشرين»، وقال «لا يوجد خيار من دون أضرار. علينا أن ننظر في عيون الأمريكيين ونقول لهم إننا نأخذ الخيار الأفضل لأكبر عدد ممكن منهم. المطلوب بشكل واضح لا لبس فيه هو أن نعيد الأمريكيين إلى العمل».
والموضوعية تقتضي القول إن البحث عن استراتيجية الخروج من الأزمة باتت مسألة وقت ليس أكثر، في ظل التأثيرات المتزايدة للجائحة على الاقتصادات والشعوب، وكذلك في ظل غياب أفق واضح لانتهائها تماما، ولكن يجب القول إنه إذا كانت الأزمة قد انفجرت في دول العالم كافة، من دون أي ترتيبات تعاونية وإجراءات تنسيقية، حيث طغت الفوضى والإجراءات الانفرادية على إدارة الأزمة حتى الآن، فإن من الضروري للحد من هذه الفوضى أن تكون استراتيجيات الخروج من الأزمة في إطار تعاون دولي لتبادل الخبرات والمعلومات بشفافية تامة، لأن إنهاء هذه الإجراءات في بعض الدول وبقاءها في بعضها الآخر لا يعني نهاية حقيقية للأزمة عالميا، حيث يبقى التأثر الاقتصادي قائما، كما يبقى - وهذا هو الأخطر - احتمال اتساع رقعة انتشار الوباء مجددا، وبالتالي فإن الاكتفاء بإجراءات على المستويات الوطنية دون تنسيق مجمل الدول لا يعني حلا للمعضلة القائمة.
كما يجب على منظمة الصحة العالمية أيضا أن تسهم بشكل أكثر فاعلية في مساعدة الدول على التعاون وتبادل المعلومات والخبرات، وتقديم توصياتها في هذا الشأن من أجل محاولة صياغة استراتيجية عالمية موحدة للخروج من الأزمة، فاختلاف الظروف والبيئات والثقافات، وكذلك التداعيات والخسائر البشرية والاقتصادية لا تعني عدم القدرة على بلورة استراتيجية علمية قائمة على خطوات تنفيذية متدرجة يمكن تطبيقها في كل مجتمع بحسب الظروف.