النقاشات حول التأثيرات والتداعيات الاستراتيجية التي ستخلفها جائحة “كورونا” على النظام العالمي هي أحد شواغل النخب والباحثين، شرقاً وغرباً، وفي دولنا العربية بطبيعة الحال؛ حيث يبدو أن هناك شبه إجماع على أن النظام العالمي القائم سيشهد تغيرات هيكلية جذرية تعيد “هندسة” ملامح الهيمنة والنفوذ. وتنطلق معظم التحليلات والتقاريرفي هذا الشأن من متغيرين مهمين أولهما تداعيات تفشي الفيروس على اقتصادات الدول وآليات استجابتها لهذه التداعيات والحد منها، وثانيهما نمط تعاطي القوى الكبرى مع الجائحة في
علاقاتها الدولية وحدود تأثيرات الأزمة على سياستها الخارجية. وعلى سبيل المثال، يتجه الجميع للمقارنة بين نجاح الصين في احتواء أزمة تفشي “كورونا” والحد من خسائرها البشرية والاقتصادية والعودة تدريجياً إلى الحياة الطبيعية حتى في المدن والمناطق التي تمثل بؤراً لانتشار الوباء محلياً وعالمياً، كما تجري المقارنة بين تعاون الصين مع الكثير من دول العالم من أجل التصدي للفيروس وتقديمها مساعدات طبية لأوروبا ودول العالم كافة، وبين احجام الولايات المتحدة عن تقديم المساعدات والتخلي عن الدور الذي تلعبه تقليدياً منذ الحرب العالمية الثانية لمصلحة الصين، حتى أنها أعلنت تجميد حصتها في منظمة الصحة العالمية بدعوى انحيازها للصين في الأزمة ومساعدتها على التستر على بيانات انتشار العدوى في بدايات الأزمة.
الولايات المتحدة فقدت المبادرة في تقديم المساعدات عالمياً هذه المرة، والأمر هنا ليس مفاجئاً بالنظر إلى سياسات إدارة الرئيس ترامب الانعزالية التي تقوم على مبدأ “الولايات المتحدة أولاً”، فضلاً عن نهج الحمائية الذي تسبب في كثير من المعضلات للعلاقات الدولية في السنوات القلائل الماضية، وفي المقابل قدمت الصين مساعدات طبية لدول أوروبية عدة كانت بحاجة ملحة إلى الكمامات وأجهزة التنفس الصناعي والكشف السريع عن المصابين بعدوى “كورونا” (كوفيد ـ19)ـ كما زودت الصين بعض الدول العربية بأطقم طبية متخصصة في مكافحة انتشار العدوى، وهذا أمر سيكون له نتائجه السياسية بغض النظر عن حدود تأثير ذلك على النظام العالمي من عدمه.
وقد لفت نظري الفكرة التي طرحها خبير العلاقات الدولية الأمريكي المعروف ريتشارد هاس، في مقال نشرته مجلة “فورين افيرز” مؤخراً، يقول فيها أن ما نمر به هو “أزمة كبيرة” بكل المقاييس، لذا من الطبيعي أن نفترض أنها قد تكون نقطة تحول في التاريخ الحديث، ويشير إلى جدل المتخصصين والباحثين حول تداعيات هذه الأزمة، ولكنه يقول إن “من غير المحتمل أن يكون العالم الذي يلي الوباء مختلفًا جذريًا عن العالم الذي سبقه”، ويعتبر أن الجائحة أن تغير الاتجاه الأساسي للتاريخ، ولكنها أقل من كونها نقطة تحول جذرية للتغيير، مؤكداً أنها قد تعجل بهذا التغيير.
صحيح أن أزمة “كورونا” قد عمقت عيوب النظام العالمي وكشفت مايعانيه من معضلات صعبة ومعقدة مثل ضعف آليات التعاون الدولي القائمة بل وانعدام تأثير الهياكل التنظيمية والمؤسسية القائمة لدرجة أن الأزمة قد جرفت في وجهها دور المنظمات الدولية التي غابت تماماً عن المشهد الذي تصدرته سياسات فردية أزاحت فكرة العولمة وكل ما كان يتردد على التعاون الدولي المتبادل وغير ذلك في المؤتمرات والمنصات السياسية حول العالم، ولكن علينا قبل أن نناقش فكرة إعادة هيكلة النظام العالمي الانتباه إلى أن هذه الفكرة ليست وليدة اليوم بل كان للباحثين الأمريكيين ذاتهم السبق في طرح الفكرة قبل سنوات طويلة مضت من خلال طروحات مستفيضة ناقشت بعمق نهاية العصر الأمريكي وبدايات أفول الامبراطورية الأمريكية، تارة بسبب صعود الصين المتسارع، وتارة أخرى بسبب الإشكاليات البنيوية التي تعانيها قيادة الولايات المتحدة للنظام العالمي. والمسألة في هذا الإطار متداولة منذ أكثر من عقدين وسؤال نهاية العصر الأمريكي ليس جديداً ولا عابراً ويقفز إلى صدارة المشهد التحليلي عند كل أزمة، قد سبق أن طرح في مناسبات عدة منها حرب العراق والأزمة المالية عام 2008 ثم مع تولي الرئيس ترامب السلطة ورفضه الالتزام بالمسؤوليات الدولية التي تتحملها بلاده تجاه الشركاء الاستراتيجيية سواء في حلف الأطلسي أو غيره، حتى أن استنتاجات قد صدرت منذ نحو عشرة أعوام تتحدث عن وصول الولايات المتحدة إلى حافة الافلاس الاقتصادي، اعتماداً على صعوبة تدبير الميزانية الأمريكية لنفقات الوجود العسكري في أفغانستان، وأن الولايات المتحدة قد فقدت بموجب ذلك قيادتها للعالم.
وقد صدرت في هذا الشأن بحوثاً وكتباً بالعشرات في الولايات المتحدة وخارجها تناقش فرضيات استمرار وانتهاء الهيمنة على النظام العالمي القائم، وسمات مرحلة مابعد أميركا، و البدائل والبدلاء المحتملون وقدراتهم وأنماط سيطرتهم ومقومات هذه السيطرة.
وبعيداً عن الاستغراق في التفاصيل، فإن من الضروري في هذا النقاش الممتع الانتباه إلى أمور عدة يمكن أن تلعب دوراً في توجيه بوصلة السجال البحثي منها أن الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي تقوم على معطيات عدة لا تقتصر على الانفاق الدفاعي والقدرات العسكرية الشاملة، بل تقوم أيضاً على تفرد النموذج الأمريكي، وسماته التي تأثرت سلباً بشكل واضح خلال السنوات الأخيرة، ولكنها لا تزال تحتفظ بالكثير من توهجها ويمكن أن تستأنف وتسترد الكثير مما فقدته، وهذا ليس تحيزاً مني ولكنها الخلاصة التي مرت علينا ـ كباحثين ـ في العقدين الأخيرين، فالقدرات الشاملة للولايات المتحدة ـ اقتصادياً وثقافياً وصناعياً وعلمياً وعسكرياً ـ لا تزال توفر لها الكثير من مقومات الزعامة العالمية، ورغم تأثر هذه الزعامة في بعدها الأخلاقي بتخلي إدارة الرئيس ترامب عن تقديم المساعدات الانسانية والصحية وحجب تمويل منظمة الصحة العالمية ومواقفها ضد اللاجئين وغير ذلك من الممارسات المثيرة للجدل، فإن من المبكر القطع بأن هذا الأمر سينهي تماماً القيادة الأمريكية للعالم.
الخلاصة، برأيي، أن أزمة جائحة “كورونا” قد أفقدت العالم قدراً من توازنه ولكن من المبكر القفز إلى استنتاجات نهائية حول هيكل القيادة والزعامة العالمية في مرحلة مابعد الأزمة.