ربما لا يجد المؤرِّخون في العصر الحديث صعوبة شديدة في تصنيف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باعتباره مثالاً ونموذجاً لا يتكرر للقادة الذين يجيدون فن صناعة الأعداء؛ حيث نجح أردوغان في تحويل سياسة تركيا من «صفر مشكلات» إلى علاقات صراعية مشحونة بالتوتر بين تركيا وجميع دول الجوار، وأيضاً مع القوى الإقليمية والكبرى على حد سواء، حيث فقدت تركيا بسبب سياساته كل علاقاتها التقليدية مع محيطها العربي والاسلامي، الذي استثمرت فيه طيلة سنوات طويلة، كما فقدت مقومات النموذج
الذي ارتكنت عليه لتحقيق الطفرة الاقتصادية 2010، حيث انحسر الأمن والاستقرار وانتشرت الفوضى والجريمة وارتفعت معدلات البطالة، وفشلت سياسات الرئيس التركي في مواصلة اللعب بورقة اللاجئين وابتزاز دول الاتحاد الأوروبي بها من أجل الحصول على المزيد من المليارات من الدولارات مقابل لجم حركة اللجوء بسبب الأزمة في سوريا، كما تحول أردوغان إلى «مشعل» حرائق إقليمية من الطراز الأول، فبعد فشل مخططاته في سوريا وإخفاقه في اللعب على الوترين الأمريكي والروسي هناك، قام بنقل مخططاته إلى ليبيا لعله يحصل منها على نصيب من كعكة النفط والغاز وتقاسم المصالح الإستراتيجية من خلال اتفاق غير شرعي وقعه مع سلطة غير شرعية!
يقول الرئيس أردوغان إن تركيا لن تخلي الساحة لـ «قوى الشر»، مشيراً إلى المنظمات الإرهابية ومن وصفهم «بمحاور العداء التي مصدرها الخليج العربي»، والحقيقة أن هذه المسألة تحديداً تعكس محدودية رؤية أرودغان ورغبته في ممارسة لعبة خلط الأوراق، فالعالم كله يعرف من يتعاون مع منظمات الإرهاب في سوريا وليبيا، والأمر لم يعد سراً في هذا الشأن، وقد جاهر اتباع تنظيم «النصرة» في سوريا بالكشف عن قتالهم إلى جانب قوات الجيش التركي وحصولهم على العتاد العسكري منه، كما وثّقت عشرات التقارير حجم الإنفاق العسكري التركي في جلب مرتزقة من دول مختلفة للقتال ضد الجيش الوطني الليبي، وهناك شهادات موثّقة تنتظر محاكم دولية في هذا الشأن.
ثمة أمر آخر يتعلّق بما وراء التدخل العربي والخليجي في الشأن الليبي، فليبيا دولة عربية وليست كياناً جغرافياً يسبح في فضاء جيوإستراتيجي خاو حتى تأتي تركيا من أعلى الإقليم لتسعي لبسط نفوذها عليه واستعادة ممارسات الاستعمار القديمة في أبشع صورها من أجل الضغط على مصر في ملفات أخرى!
معروف أيضاً أن العمل العربي المشترك يقوده منذ اضطرابات عام 2011 كل من مصر والسعودية والإمارات، للحفاظ على ما تبقى من مقومات وركائز الأمن والاستقرار في الدول العربية والحفاظ على مكتسبات ومصالح شعوبها، ومن بينها ليبيا بطبيعة الحال، والمسألة هنا ليست شأناً فردياً لدولة دون أخرى، بل توافقات وتفاهمات تحقق الصالح القومي العربي العام، لكن حين تأتي تركيا لتصف دفاع العرب عن بلادهم وشعوبهم وأنفسهم بأنها «محاور عداء»، فهذا هو خلط الأوراق الكذب والخداع بعينه لأن تركيا التي تعيث في سوريا فساداً منذ سنوات مضت بدعوى حماية أمنها الوطني، تستنكر قيام الدول العربية بالأمر ذاته في ليبيا، بل وتسعى لإفساد كل الجهود الرامية لتحقيق الأمن والاستقرار في هذا البلد العربي ما لم تحصل تركيا على نصيب من كعكعة المصالح!
الحقيقة أن الرئيس أردوغان قد تحول إلى دمية بيد تنظيم الإخوان، وفقد أقرب حلفائه السياسيين في الداخل والخارج ولم يعد قادراً على استيعاب أولويات المصالح الإستراتيجية للشعب التركي في هذا المرحلة الحرجة وتحول إلى عبء كبير على الأتراك. وفي ظل هذا الوضع يبدو من الصعب ترقب أي تغيير أو تعديل في سياسات تركيا ما لم تصبح حقبة أردوغان صفحة من الماضي، وحتى حدوث ذلك يتوقَّع تفاقم الأزمات الإقليمية الناجمة عن التهور والارتباك وسلسلة الأخطاء الإستراتيجية المتكررة التي يسقط فيها أردوغان والمقرّبون منه الذين لم يعد من بينهم من يمتلك خبرة سياسية أو اقتصادية كافية، حيث فقد الرئيس التركي جميع حلفائه القدامي بدون استثناء ونجح في تحويلهم إلى أعداء شرسين!