ليس سراً أن حلف شمال الأطلسي يعيش منذ نحو عقدين أزمة هوية تتعلق بدوره وأهدافه في حقبة مابعد الحرب الباردة، وقد تدارست دول الحلف هذه الأزمة طويلاً ولاسيما خلال الذكرى الخمسين للحلف في عام 1999، وسعت للخروج منها بتطوير برامج عمل الحلف وأهدافه في القرن الحادي والعشرين لتشمل مكافحة الارهاب والتطرف وبناء قوة فضائية والحروب السيبرانية وغير ذلك، ولكن الاحساس بهذه الأزمة لا يزال يخيم على الحلف وتحديداً منذ تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون التي قال فيها أن الحلف
في حالة "موت سريري"، إذ فتحت هذه التصريحات الباب أمام مناقشة دور الحلف إثر تساؤل الرئيس ماكرون الذي قال فيه "ماذا تعني المادة الخامسة من ميثاق الحلف مستقبلا ؟"، وذلك في إشارة إلى التعهد الأساسي للناتو بأن يدافع جميع الحلفاء عن أي عضو يتعرض لهجوم، مضيفا "يجب أن نعيد تقييم الواقع الذي يعايشه الناتو في ضوء التزام الولايات المتحدة حياله"، وهي تصريحات قوبلت بتحفظ من جانب بعض أعضاء الحلف ورفض من بعضهم الآخر، حيث قال سفير الولايات المتحدة لدى الناتو إن بلاده تختلف "بشدة" مع هذا التقييم، بينما قال رئيس الوزراء البولندي ماتيوز مورافسكي إنه "لأمر خطير" أن نشكك في المادة المعنية بالدفاع المشترك عن أعضاء الناتو، وقال لصحيفة "فاينانشيال تايمز" إن ماكرون "لا يشعر بملامسة الأنفاس الحارة للدب الروسي لرقبته".
ما يهمنا في هذه القضية هو واقع الحال، الذي يقول أن الحلف لم يستطع السيطرة على سلوك تركيا، أحد الدول الأعضاء في الحلف، سواء في سوريا أو في استيرادها منظومة الدفاع الصاروخي الروسية "إس 400"، ناهيك عن عجز الحلف عن ايقاف القمع التركي للحريات في أعقاب ما سمي بانقلاب عام 2016، والعلاقات السياسية المتدهور بين تركيا ودول الحلف الأوروبية على وجه التحديد.
أحدث حلقات التغريد خارج السرب الأطلسي من الجانب التركي، ما حدث مؤخراً، من "أعمال عدائية" قامت بها زوارق تركية ضد سفين فرنسية كانت تشارك في مهمة لحلف الأطلسي في البحر المتوسط في تصرف وصفته وزارة الجيوش الفرنسية بأنه "عملاً عدوانياً للغاية لا يمكن أن يكون من فعل حليف تجاه سفينة تابعة للحلف الأطلسي"، واعتبرت أن "هذه القضية خطيرة جدا في نظرنا (...) لا يمكننا أن نقبل بأن يتصرف حليف على هذا النحو، وأن يقوم بما قام به ضد سفينة لحلف شمال الأطلسي تحت قيادة الحلف تقوم بمهمة للناتو".
الخلاف الفرنسي التركي، تطور إلى تصريحات متبادلة بين قيادتي البلدين على خلفية التدخل التركي العسكري المباشر في ليبيا، وانتهاك أنقرة لالتزاماتها في مؤتمر برلين بشأن الأزمة الليبية، حيث حمّل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تركيا "مسؤولية تاريخية وجنائية في الصراع الليبي كدولة تدعي أنها عضو في الناتوكما اتهمت وزارة الدفاع الفرنسية سفن تركية بنقل مقاتلين إلى ليبيا، وقيام سفن تركية بمنع فرقاطة فرنسية مِن تفتيشها في عرض البحر. وانتهى الأمر إلى انسحاب فرنسا من عملية للأمن البحري لحلف شمال الاطلسي في المتوسط بسبب خلافاتها مع تركيا، وقال البيان الفرنسي الرسمي مستهدفاً تركي تحديداً "لا يبدو لنا أمرا سليما الإبقاء على وسائل في عملية يفترض أن يكون من مهامها العديدة السيطرة على الحظر مع حلفاء لا يحترمونه".
هذه الأزمة ليست التحدي الوحيد الذي يواجه حلف الأطلسي، فهناك خلافات أمريكية أوروبية، وهو ماتجسد مؤخراً في موافقة الرئيس دونالد ترامب على خطّة لسحب 9500 جندي أميركي متمركزين حالياً في ألمانيا، على أن يتم تقديم هذه الخطة "في الأسابيع المقبلة" إلى الكونجرس ومن ثمّ إلى الحلفاء في حلف شمال الأطلسي، ما يترجم تصريحات الرئيس ترامب التي اتهم فيها ألمانيا بالاستفادة مالياً من الوجود العسكري الأميركي في أوروبا.
ما يهمنا في هذه القضية أن الحلف الذي يواجه فعلياً أزمات عدة، قد يكون عليه حسم موقفه حيال عضوية تركيا ومدى التزامها بمسؤولياتها وواجباتها تجاه عضوية الأطلسي، باعتبار هذه المسألة باتت من أهم التحديات التي تواجه قيام الحلف بدوره ومسؤولياته الدولية في المرحلة المقبلة؛ فالواقع يقول أن تركيا باتت تعمل ضد المصالح الاستراتيجية لدول الأطلسي، بل باتت أحد معاول هدم أمن الدول الأوروبية الأعضاء بالحلف سواء من خلال ابتزازها المستمر لهذه الدول عبر التلويح بورقة اللاجئين السوريين، أو من خلال تدخلها العسكري المباشر في ليبيا بما يعنيه ذلك من خطر تدفق المهاجرين غير الشرعيين عبر سواحل المتوسط إلى شواطىء دول الحلف، فضلاً عن تهديد مصالح دول الحلف في مياه البحر المتوسط والملف السوري وسعي تركيا المتواصل للبحث عن دور ونفوذ اقليمي ودولي بما يتعارض مع أجندة الحلف ومصالح الدول الأعضاء فيه.