يميل الكثير من الخبراء والمراقبين إلى القول بأن مكانة الولايات المتحدة في النظام العالمي قد تراجعت كثيراً في السنوات الأخيرة، ويذهب البعض من هؤلاء إلى القول بأن مقعد قيادة هذا النظام بات خالياً في ظل انكفاء القوة الأولى على ذاتها، وانشغالها بهمومها وقضاياها الداخلية، وأن الولايات المتحدة لم يعد لها ذات التأثير الاستراتيجي على العالم بعد أن رفع الرئيس ترامب شعار "أمريكا أولاً" متجاهلاً مصالح حلفاء بلاده على الصعد الاستراتيجية كافة، السياسية والاقتصادية والتجارية.
وقد شاءت الأقدار أن يتعرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للإصابة بفيروس كورونا المستجد (كوفيد _19) مؤخراً ما جعل العالم كله يحبس أنفاسه ويراقب تطورات الموقف أولاً بأول ربما بدرجة اهتمام تفوق الأوساط الأمريكية ذاتها، وهو مشهد لم يحدث في حالات أخرى عديدة اُصيب فيها رؤساء وقادة دول أخرى بالفيروس ولكن حالتهم لم تستأثر بالاهتمام العالمي ذاته، وهو مؤشر مهم يعاكس الفكرة التي يروج لها أصحاب نظرية تراجع هيبة ومكانة ونفوذ الولايات المتحدة.
الواقع يشير إلى أن هناك اهتمام عالمي كبير بمتابعة أجواء وتطورات السباق الانتخابي الأمريكي الشرس، والعالم شبه منقسم في تفضيلاته وتوقعاته حول هوية السيد المقبل للبيت الأبيض، ونتائج الانتخابات المقبلة ستكون عنصراً حاسماً في تحديد ملامح النظام العالمي خلال السنوات الأربع المقبلة، وهناك بالفعل قضايا استراتيجية مهمة للغاية تنتظر نتائج تصويت الناخب الأمريكي، فالرئيس ترامب قد تبنى نهجاً مغايراً في السياسة الخارجية الأمريكية، وأجرى تغييرات نوعية كبيرة في هياكل التحالفات وانخراط بلاده في الاتفاقات والمنظمات الدولية، حتى أن البعض قد اعتبر أن الولايات المتحدة دخلت مرحلة انعزالية جديدة، وتخلت عن مسؤولياتها في قيادة النظام العالمي، ما جعل العالم كله يترقب نتائج سباق نوفمبر الانتخابي بشغف واهتمام شديدين، لأنه سيحدد بالضرورة اتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية إما بمواصلة نهج ترامب أو بالتخلي عن الكثير مما أحدثه من تغييرات، ولاسيما فيما يتصل بعلاقات بلاده مع حلفائها الأطلسيين وموقفها بشأن قضايا عالمية مهمة مثل الاحتباس الحراري والاتفاقات الجماعية والثنائية بشأن التجارة وغير ذلك.
الاهتمام العالمي بما يدور في أروقة السياسة الأمريكية له معان ودلالات عميقة، ويشكل جوانب متعددة، ولم يقتصر على التداعيات المحتملة لإصابة الرئيس ترامب بفيروس "كورونا" المستجد، بل امتد ليشمل انتشار نظرية المؤامرة حول حقيقة إصابة الرئيس الأمريكي، بوتيرة ربما تفوق انتشار عدوى الاصابة بالفيروس عالمياً، حيث ذهب أنصار النظرية للقول بأن الرئيس ترامب لجأ إلى "اختراع" سيناريو الاصابة بالفيروس كي يستعرض قوته ويستقطب تعاطف الملايين من الناخبين الأمريكي كما حدث مع الرئيس الأسبق ريجان عندما تعرض لإطلاق نار في مستهل ولايته الرئاسية الأولى عام 1981، وهو أمر يصعب تصديقه لعدم سهولة اخفاء المعلومات الخاصة بحقيقة مرض الرئيس في بلد كبير يتمتع بمساحات واسعة من الحرية الاعلامية كالولايات المتحدة، فضلاً عن أن اكتشاف الحقيقة قد يكلفه أكثر من خسارة الانتخابات المقبلة.
برأيي، فإن المعضلة الأكثر صعوبة التي تواجه الولايات المتحدة عقب انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة، لا تتمثل في هوية الفائز بالسباق، بل تكمن بالأساس في كيفية رأب الصدع وجسر هوة الخلافات والانقسامات العميقة التي تجتاح المجتمع الأمريكي، ففوز الرئيس ترامب بولاية ثانية لن يقنع الديمقراطيين ومعسكرهم، وكذلك الأمر بالنسبة لفوز جو بايدن، والواضح أن الهوة تزداد بين المعسكرين المتنافسين، وتوقيت إصابة الرئيس بالفيروس قاتل لدرجة أنه قد يقلب نتائج استطلاعات الرأي تعاطفاً مع الرئيس الذي تعرض للخطر هو وزوجته شأنه شأن الملايين من أبناء شعبه، وسيعرف ترامب ـ إذا ما تعافى تماماً واستطاع الخروج من أزمة اصابة الكثيرين من أعضاء فريقه الانتخابي بالفيروس ـ كيف يوظف الحدث لمصلحة حملته الانتخابية خلال الفترة الوجيزة المتبقة، وهي فترة مثالية للابقاء على جذوة حماس الناخبين للتصويت للرئيس في الخامس من نوفمبر المقبل.
عنصر الحسم الأساسي في مسألة إصابة الرئيس بالفيروس هو حقيقة هذا الحدث المفصلي الكبير، وقدرة الآلة الاعلامية للجمهوريين على دحض المزاعم الاعلامية التي تتحدث عن "مسرحية انتخابية"، واثبات صحة الاصابة، وفي جميع الأحوال فإن من الصعب اخفاء الحقائق لفترة طويلة في الولايات المتحدة، ولكن يبقى الوصول للناخبين واقناعهم وكسب تعاطفهم لمصلحة أي من المرشحين مسألة حيوية في الفترة الزمنية القصيرة المتبقية على نهاية السباق.
الحقيقة أن انشغال العالم أجمع بالانتخابات الرئاسية الأمريكية وتطوراتها وتفاعلاتها غير المسبوقة يمثل بحد ذاته برهاناً مؤكداً على مكانة الولايات المتحدة وموقعها في النظام العالمي، فهي لا تزال تتربع على مقعد القيادة ولا تزال أحداثها تحرك العالم.