إذا كانت غالبيتنا ـ كعرب ومسلمين ـ ترفض أن نخوض مواجهة صفرية مع الآخر من سكان قريتنا الكونية الصغيرة، فحري بالأطراف الأخرى ألا تنتصر لفئة ضالة ضئيلة تزعم زورًا وبهتانًا الدفاع عن الاسلام وأتباعه، وهذا الانتصار يبدأ وينتهي عند الغموض الذي يكتنف في بعض الأحيان موقف بعض الأوساط الغربية من الدين الاسلامي والمسلمين بشكل عام.
علينا جميعًا أيضًا أن نعترف بأن الأزمة التي تحدث عنها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في خطابه الذي القاه اوائل شهر أكتوبر الجاري، لا تخص فقط واقع الامة الاسلامية التي تغرق الكثير من مناطقها بالفعل في بؤر الفتن والفوضى والتطرف والارهاب، بل تمتد لتشمل المجتمعات الغربية التي تعيش أيضًا أزمة عميقة بسبب فشل سياسات الدمج الاجتماعي التي انتهجتها لسنوات وعقود طويلة، وأيضًا بسبب تغليب المصالح السياسية على التداعيات الكارثية الناجمة عن احتضان تنظيمات التطرف والارهاب والعنف لسنوات بدعوى حمايتها من القمع الذي تعانيه في دولها العربية والاسلامية.
ولعل من عاش في بعض الدول الغربية وتحديدًا فرنسا وبريطانيا، يعي تمامًا ويدرك مغزى ودوافع حديث الرئيس الفرنسي ماكرون عن محاولة تنظيمات التطرف التي تعيش في هذه الدول خلق دولة موازية ترفض قيم العلمانية الغربية التي تمثل أساسًا للعقد الاجتماعي بين الشعب والحكومات في هذه الدول؛ حيث يحلم قادة الارهاب بتحويل هذه المجتمعات العلمانية إلى الدين الاسلامي ويعتقدون أن تحقيق هذا "الحلم" يبدأ بتأليب أبناء الجاليات الاسلامية ضد قيم ومبادئ دولهم وغرس الكراهية في نفوسهم ضد أوطانهم.
وإذا كانت هذه التنظيمات تسعى لاقامة دول موازية في بلادها العربية والاسلامية، وإذا كان رحم هذه التنظيمات قد أخرج جماعات للتكفير والهجرة، ورفض وتحريم الحياة في مجتمعاتهم العربية والاسلامية التي تجذر فيها الاسلام منذ ألف وأربعمائة عام، فكيف لنا ألا نتخيل سعي هذه التنظيمات لاقامة نظام مواز وإنكار الجمهورية في دولة مثل فرنسا؟! ثم ألم تنكر هذه التنظيمات فكرة الوطن ذاتها في الدول العربية والإسلامية وتعلن أن الوطن ليس سوى "حفنة من تراب" كما قال أحد قادة تنظيم "الإخوان المسلمين"؟! ألم تنشر تنظيمات الارهاب والتطرف الفكر المتطرف في كثير من مجتمعاتنا العربية والاسلامية، وتدعو لاقامة ما يقولون أنه نظام سياسي إسلامي يبدأ برفض الآخر واحتكار السلطة والاستبداد السياسي الذي يرتدي عباءة الدين كما كان الحال في عام حكم مكتب الارشاد التابع لتنظيم الإخوان المسلمين لدولة اقليمية كبرى كمصر قبل أن يثور عليها الشعب المصري ويقتلع حكمها من جذوره في يونيو عام 2013؟!
الأرجح بالنسبة لي أن خطاب الرئيس الفرنسي في أكتوبر كان بمنزلة تشخيص سياسي لداء المجتمع الفرنسي وليس هجومًا على الدين الاسلامي وأتباعه، فقد حمّل ضمنًا الحكومات الفرنسية المتعاقبة مسؤولية الأوضاع التي دفعت الجاليات الاسلامية إلى البقاء في مجتمعات منعزلة، ما فتح المجال لسقوط أبنائها فريسة سهلة للفكر المتطرف، حيث قال "قمنا بتجميع السكان بموجب أصولهم، ولم نعمد إلى إحلال ما يكفي من الاختلاط، ولا ما يكفي من تمكينهم من التدرج الاقتصادي والاجتماعي"، وتحدث كذلك عن أن تنظيمات التطرف استغلت تخاذل الدولة الفرنسية عن أداء دورها في تحقيق مآربها، وهو ما فعلته هذه التنظيمات تمامًا في دول أخرى، حيث انتهزت فرصة غياب الدولة وتقاعسها عن أداء دورها التنموي ونجحت في بناء شبكات اجتماعية لتقديم الدعم واستقطاب أبناء الفقراء وتحويلهم إلى عناصر فاعلة تعمل لتحقيق الأهداف السياسية للتنظيمات الارهابية المتطرفة.
الواقع يقول إن العالم لا يزال يعاني خطر تفشي وباء التطرف والارهاب، الذي لا يقل خطرًا عن الأوبئة الصحية، فهو وباء يصيب الفكر والعقل الانساني، ويتطلب جهودًا مضنية وتعاونًا دوليًا لا يزال بعيد المنال كما هو حال التعاون الدولي في مواجهة تفشي وباء "كورونا" المستجد (كوفيد ـ19)، لذا فإن أحد المخارج الحتمية من هذا الواقع العالمي المؤلم يتمثل في نشر قيم الأخوة الانسانية الحقيقية، التي كانت جوهر وثيقة "الأخوة الانسانية" التي وقعها في أبوظبي خلال شهر فبراير عام 2019، الإمام الأكبر د. أحمد الطيب فضيلة شيخ الأزهر رئيس مجلس حكماء المسلمين وقداسة البابا فرانسيس بابا الفاتيكان، والتي تناولتها أيضًا كلمة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب في التجمع الدولي للصلاة من أجل السلام بين الديانات الكبرى في العالم تحت عنوان "لا أحد آمن وحده ـ السلام والأخوة"، والذي دعت إليه جمعية "سانت إيغيديو" في العاصمة الإيطالية روما مؤخرًا، وقال فيها "إن علاج أمراض الكراهية والعنصرية البشرية يكمن في ترياق خرج من قلب تجاربنا المريرة، وهو ترياق الأخوة الإنسانية التي أرى فيها مناعة صلبة في مواجهة الأوبئة الفكرية والأخلاقية"، مشيرا فضيلته إلى أن مفهوم الأخوة الإنسانية لا يعني فقط الاكتفاء بقبول الآخر، بل يعني أن نبذل الجهد من أجل خيره وسلامته، وأن نرفض التمييز ضده بسبب أي اختلاف من أي نوع، ولا نألو جهدا في نشر هذه المبادئ السامية بين الناس.
حسنًا فعل فضيلة شيخ الأزهر حين قال متحدثًا عن الارهابي الذي ذبح المدرس الفرنسي"ليس هذا الإرهابي وأمثاله يعبرون عن دين محمد – صلى الله عليه وسلّم"، وحين جدد في كلمته أمام العالم براءة أحكام الدين الاسلامي الحنيف "من كل من ينتهج الفكر الضال المنحرف"، رافضًا بشدة الربط بين الارهاب وأي دين سماوي، ومشددًا أيضًا على أن الإساءة للأديان والنيل من رموزها المقدسة تحت شعار حرية التعبير هو إزدواجية مختلة ودعوة صريحة للكراهية.
تفكيك العلاقة بين الاسلام والارهاب يتطلب من الجميع جهودًا دؤوبة للتعريف بديننا الحنيف لدى الآخر، كما يتطلب أيضًا نوايا مخلصة تسعى لمحاربة التطرف والارهاب من دون الاساءة للأديان وتدرك أن أي عمل يسىء للدين الاسلامي ورموزه إنما يعد صبًا للزيت على نار الفتن وهدية مجانية لتنظيمات التطرف والارهاب التي تقتات على مثل هذه الممارسات المسيئة وتستغلها في نشر التطرف وجذب البسطاء والتغرير بهم بزعم الدفاع عن الاسلام والمسلمين.