وسط طوفان من الغضب والانفعالات الوقتية في أغلبها، ووسط دعوات للانتقام والمقاطعة السلعية، وغير ذلك، جاء موقف مجلس حكماء المسلمين برئاسة فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر رئيس المجلس، بشأن الإساءة للإسلام ورموزه ومقدساته، ليؤكد أن هناك خيارات أخرى بديلة تحقق الأهداف المنشودة من وراء الغضب وتعلي قيم الإسلام الحنيف وتعكس تحضره وقيمه الانسانية وسلوكياته النبيلة في إدارة الخلاف مع الآخر.
الاجتماع الأخير لمجلس حكماء المسلمين تبنى موقفًا متوازنًا وهادئًا ومعبرًا، حيث أدان "الحملة الممنهجة" التي تسعى للنيل من نبي الإسلام والاستهزاء بالمقدسات الإسلامية تحت شعار حرية التعبير، وأعرب المجلس عن رفضه الشديد لاستخدام لافتة حرية التعبير في الإساءة لنبي الإسلام محمد -صلي الله عليه وسلم- ومقدسات الدين الإسلامي، مشددًا على أن حرية التعبير لابد أن تأتي في إطار من المسؤولية الاجتماعية التي تحفظ حقوق الاخرين ولا تسمح بالمتاجرة بالأديان في أسواق السياسة، وفي الوقت ذاته استنكر المجلس بشدة قتل المدرس الفرنسي، وكذلك الاعتداء بالطعن والشروع في قتل سيدتين مسلمتين قرب برج إيفل، مشددًا على أن كل هذه الحوادث هي إرهاب بغيض أيًا كان مرتكبها وكيفما كانت دوافعها.
الحقيقة أن مجلس حكماء المسلمين تعاطى مع الأزمة الراهنة التي تتمحور حول موقف الرئيس الفرنسي ماكرون تجاه الدين الاسلامي والمسلمين، بمسؤولية وعقلانية مغّلبًا لغة العقل والحكمة والمنطق ومتفهمًا ما وراء دعوات التحريض والعنف والقتل الصادرة عن تنظيمات الارهاب المحسوبة على الدين الاسلامي تارة، والاستفزازات الصادرة عن اليمين المتطرف الذي يستهدف تشويه الإسلام وترسيخ فكرة إلصاقه بالإرهاب والانعزالية، ويروج للعداء ضد المسلمين.
اختار مجلس حكماء المسلمين مسارًا قانونيًا حضاريًا لمواجهة خطاب الكراهية والتحريض في الغرب، والدعوة إلى سن تشريعات دولية تجرم التحريض علي الكراهية والتمييز ومعاداة الإسلام، ومطالبة عقلاء الغرب ومفكريه بالتصدي للحملة الممنهجة على الإسلام ومعاداته والزج به في ساحات الصراعات الانتخابية والسياسية والتأكيد على ضرورة تهيئة البيئة الصحية للتعايش والأخوة الإنسانية.
أزمة الرسوم المسيئة للرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) وكذلك تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون، بشأن ما وصفه بـ "الانعزالية الاسلامية"وربطه غير الموفق بين حرية التعبير والاساءة للأديان، هي أزمة متكررة تعانيها العلاقة بين الاسلام والغرب، وتطغى على معالجاتها دعوات وقتية سواء لمقاطعة السلع والمنتجات، أو ددعوات تحريضية تسعى لتعميق الأزمة واستغلال أجوائها في تحقيق أهداف سياسية لا علاقة لها بالانتصار للإسلام ولا التعاطف مع رموزه والغضب من الاساءة إليهم.
الحقيقة أن ضبط النفس في مواجهة دعوات التحريض والاستفزاز يمثل قمة العقل والحكمة التي يجب أن تميز مؤسساتنا الإسلامية ورموزها، فالمسألة لا تتعلق فقط بالشعوب العربية والاسلامية التي يفوق عدد سكانها المليار ونصف المليار نسمة، بل تتعلق أيضًا بالمسلمين في الغرب، الذين يقعون في مثل هذه الأزمات بين شقى الرحى، ويعانون معاناة شديدة جراء الضغوط التي تفرزها هذه الأجواء الصراعية البغيضة، لذا فقد أحسن بيان مجلس حكماء المسلمين حين دعاهم للتمسك بقيم التعايش والسلام والمواطنة مع كل المكونات الاجتماعية في بلدانهم، والاندماج الإيجابي في تلك المجتمعات، بما يعزز مساهماتهم في البناء والتنمية مع الحفاظ على ثوابتهم وخصوصياتهم الدينية والثقافية.
والحقيقة أيضًا أن الأمور في مثل هذه الأحوال واضحة، والبشرية التي عانت حروبًا عالمية وصراعات دامية كثيرة لا ينقصها حربًا جديدة يريد البعض إشعالها بين الاسلام والآخر، وبالقدر ذاته فإن العلاقة بين حرية التعبير والمساس بالأديان والمقدسات واضحة لا لبس فيها، وهناك خيوط مرئية تفصل بين الأمرين، بدليل أن هذه العلاقة لا تمس حين يتعلق الأمر بأديان وأمور أخرى، وتلك نقطة شائكة ولكن يجب علينا ألا نغفلها حين نتحدث عن الاسلام تحديدًا، ليس تعصبًا لديننا الحنيف ولكن لأن الاساءات وتجاهل الثوابت والأمور الواضحة في هذا الشأن هو بمنزلة فتح لأبواب الشرور الكبرى على الشعوب الآمنة، سواء في عالمنا الاسلامي أو في الغرب ذاته، لأن نار التعصب والفتن تحرق الجميع ويصعب الادعاء بأنها ستقتصر على مجتمع دون آخر، فللأديان روموزها ومقدساتها حساسيات استثنائية يجب احترامها والاعتراف بها إذا اردنا فعلًا نشر أجواء التعايش والتسامح وقبول الآخر.
يجب أن نعلم جميعًا أنه ليس هناك هدية تقدم للتنظيمات الارهابية والمتطرفين في كل مكان، أفضل من إشعال نار الفتنة بالاساءة إلى دين أو مقدسات، كما يجب أن يتفق الجميع على أن ترسيخ القيم الانسانية مثل حرية التعبير لا يعني فتح المجال للإساءة للأديان والمقدسات، كما يجب بالفعل سن تشريع عالمي ملزم لتجريم كافة أشكال خطاب الكراهية المبني على المعتقد أو العرق أو الدين باعتبار ذلك أحد أسس تحقيق الأمن والسلم في المجتمعات. ومن يتحفظ على ضرورة احترام الأديان عليه أن يدرك أن ترك الحبل على الغارب لهذه الممارسات والسلوكيات المعادية للأديان ورموزها لا يبشر بخير أبدًا، ففي أوج هذه الأزمة صدر تصريح عن أحد قادة الأحزاب اليمينية في أوروبا ضمن حملته الانتخابية زعم فيه أن "القرآن أخطر من كورونا"!
أكثر ما أخشاه في هذه الأزمة أن هناك أنظمة وقادة شعبويين في العالم الاسلامي يقتاتون على ما يحدث، كما هو الحال بالنسبة لملالي إيران و"السلطان"التركي رجب طيب أردوغان، فهذه الأنظمة التي ترتكب جرائم القتل والابادة ضد المسلمين في بلادهم كما يحدث في سوريا والعراق وليبيا واليمن، وتقوم بأعمال لا تمت للإسلام بصلة أقلها استغلال اللاجئين المشردين كورقة لابتزاز الغرب والحصول على الأموال لمجرد وقوفها كحائط صد لمنع اللاجئين من الوصول إلى شواطئ أوروبا، وجدت هذه الأنظمة في أزمة الاساءة للإسلام فرصة ثمينة لإظهار نفسها بمظهر المدافع عن الإسلام والمسلمين! لذا، وبعيدًا عن المهاترات والمزايدات، فإنني أجد المسار القضائي والقانوني الذي اتخذه مجلس حكماء المسلمين بديلًا أكثر فاعلية وكفاءة على المديين المتوسط والبعيد في التعامل مع هذه الأزمة العميقة والمتكررة والتي لا يمكن الادعاء بأن الانفعالات الوقتية يمكن أن تحاصرها أو تحول دون تكرارها في المستقبل القريب.