يتفق معظم الخبراء والباحثين على أن جائحة "كورونا" المستجد ستكون منعطفاً تاريخياً نوعياً ومحطة فارقة تفصل ماقبلها عما بعدها، وقد تبارى الكثيرون في البرهنة على صحة هذا التصور ونتائجه وتداعياته، كما ذهبت التحليلات والاستنتاجات إلى بناء تصورات حول شكل النظام العالمي في مرحلة مابعد كورونا وهياكله وأنماط السيادة والنفوذ المتوقعة فيه.
والحاصل الآن أن هناك العديد من الشواهد والمقدمات التي تنبىء بأننا نعيش ارهاصات التحول نحو نظام عالمي جديد، بعضها يتعلق بتنامي الشكوك والمآخذ التي تحيط بما يمكن وصفه بنموذج التفوق الأمريكي سواء بسبب أحداث الانتخابات الرئاسية الأخيرة أو بسبب الاخفاق في السيطرة على تفشي وباء "كورونا" المستجد، وبعضها الآخر يرتبط بصعود منافسين جدد في مقدمتهم الصين، التي تواصل الصعود بسرعة قياسية نحو زعامة العالم اقتصادياً بالدرجة الأولى، حيث ذكرت تقارير أوروبية عدة نشرت مؤخراً أن الاقتصاد الصيني يمضي بسرعة لاحتلال المرتبة الأولى عالمياً في ظل معدلات نمو قياسية تثل إلى 6%، فضلاً عن اتجاه الصين لبناء تكتلات اقليمية ودولية قوية آخرها اتفاقية الشراكة الاقتصادية الاقليمية الجديدة التي تضم الدول الأعضاء في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) بالاضافة إلى استراليات ونيوزيلندا واليابان وكوريا الجنوبية، وهي كتلة ضخمة تضم نحو ثلث سكان العالم وثلث الناتج الاقتصادي العالمي، ولو أضفنا هذه الاتفاقية إلى مبادرة "الحزام والطريق"، التي يتوقع لها أن تعيد تشكيل خارطة التجارة العالمية، فإننا نكون بصدد قوى عظمى قادرة على قيادة العالم اقتصادياً، وقد أشارت صحيفة "التايمز" البريطانية إلى ذلك مؤخراً، معتبرة أن قيادة الصين للنظام الأمني العالمي بات مسألة وقت، ورغم أن هذا "الاعتراف" قد جاء في سياق التعبير عن شكوك تحيط بما يمكن وصفه بشعبية النموذج الصيني عالمياً، فإنه يعكس توجساً غربياً من الصعود الصيني المتسارع لقمة النظام العالمي.
ثمة شواهد أخرى عديدة على التفاعلات التي تسبق طوفان التغيير القادم في هيكلية النظام العالمي، بعضها يرتبط بالسلوك السياسي الصيني، الذي يشهد تحولات نسبية تعكس حرص القيادة الصينية على تفادي التسرع والاصطدام المبكر بالولايات المتحدة، ولكنها تعكس أيضاً حرصاً على الدفاع بقوة عن المصالح الاستراتيجية الصينية، وبعض هذه التغييرات يرتبط أيضاَ بمواقف غربية حيال النظام العالمي القائم، ومن ذلك تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون التي أدلها بها لإحدى المجلات الصادرة في باريس، وانتقد فيها مجلس الأمن الدولي حيث قال"يجب أن أقول إن مجلس الأمن الدولي لم يعد يصدر حالياً أي قرارات مفيدة، كما قال إن الولايات المتحدة لن تقبل الأوروبيين كحلفاء "إلا إذا أخذنا أنفسنا على محمل الجد وإذا كان لدينا سيادة في دفاعنا عن أنفسنا"، وإذا اضفنا هذه التصريحات الفرنسية اللافتة إلى مواقف سابقة للرئيس ماكرون قال فيها إن حلف شمال الأطلسي (ناتو) "ميت سريريا" داعياً إلى إعادة التفكير في الحلف، وأيضاً إلى مواقف معروفة لقوى كبرى مثل روسيا والصين حيال الممارسات السائدة في المؤسسات الدولية، فإن ذلك كله يعني أن هناك حالة متنامية من عدم الرضا حيال النظام العالمي وأن هذه الحالة ستغذي حتماً وتيرة التغيير وتعجل به.
ما يهمنا، في الدول العربية، في خضم هذه التفاعلات الدولية أن نضمن ولو قليلاً من التأثير في أي معادلات قادمة، صحيح أن هذا الأمر يبدو صعباً وربما بعيد المنال في ظل الحالة غير المسبوقة من الضعف والتدهور التي تعانيها مؤسسات العمل الجماعي العربي، ولكن علينا أن ندرك أن تشكيل قواعد نظام عالمي جديد لن تتأتى في غضون سنوات قلائل، وأن الأمر يمكن أن يستهلك عقداً أو عقدين لاتضاح ملامح الحقبة القادمة استراتيجياً وقيادياً، وبالتالي فالكرة لا تزال في ملعب العرب للخروج من مستنقع الأزمات التي تحاصر الكثير من دولنا وتهدد حاضرها ومستقبلها، ومحاولة اللحاق بالركب العالمي ومن ثم البحث عن فرص التأثير في أي نظام عالمي قادم.