يعتبر ملف البرنامج النووي الايراني أحد أبرز القضايا والموضوعات التي تحتل صدارة اهتمامات السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية في المرحلة الراهنة، ليس فقط في ظل وجود إدارة أمريكية جديدة، ولكن أيضاً لأن هناك تكهنات كثيرة بأن الرئيس الحالي دونالد ترامب قد يختتم فترته الرئاسية بإصدار أمر بتوجيه ضربة عسكرية أمريكية للمنشآت النووية الايرانية، وهي مسألة تقلق ملالي إيران وتثير مخاوفهم، لأن مثل هذا السيناريو يحظى بدافعية عالية لدى الرئيس ترامب شخصياً كونه أخفق في إخضاع نظام الملالي من خلال آلية العقوبات الأكثر صرامة، التي تتطلب وقتاً طويلاً كي تحقق أهدافها، لاسيما مع أنظمة لا تأبه للمعاناة الناجمة عن تأثير العقوبات وتضع بقائها واستمرارها في السلطة كمؤشر لما تصفه بالصمود ومقاومة العقوبات!
ملالي إيران ينتهجون منذ أشهر استراتيجية قائمة على الانحناء للغضب الترامبي، على أمل أن يأتي رئيس جديد للبيت الأبيض ويقوم بتغيير استراتيجية التعامل، وقد ازداد حماسهم لهذه الاستراتيجية منذ أن أعلن الرئيس المنتخب جو بايدن أثناء حملته الانتخابية، عزمه العودة للاتفاق النووي مع إيران حال وصوله للبيت الأبيض.
الحقيقة التي يجب على ملالي إيران استيعابها جيداً أن مسألة عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي الموقع بين إيران ومجموعة "5+1" ليست بالسهولة التي يتصورها البعض، وعلينا أن ندرك أن هناك فارقاً بين الوعود الانتخابية وتنفيذها، فعلى سبيل المثال، لم ينفذ الرئيس ترامب وعده بالانسحاب من الاتفاق النووي سوى بعد أكثر من عامين من وصوله للبيت الأبيض، وبالتالي لا يُتصور أن يصدر الرئيس المنتخب جو بايدن في اليوم التالي لمباشرة مهام منصبه قراراً بالعودة للاتفاق النووي كما يعتقد فريق من ملالي إيران الحالمين برفع العقوبات القاسية التي فرضها الرئيس ترامب طيلة فترته الرئاسية.
قلت سابقاً، واكرر أن الموقف الأمريكي من الملف النووي الايراني لا يجب أن يكون ساحة للممحاكات السياسية بين الديمقراطيين والجمهوريين لأن المسألة لا تتصل فقط بعلاقات الولايات المتحدة مع النظام الايراني، بل تتصل بشكل مباشر بعلاقات واشنطن مع حلفائها الاستراتيجيين في منطقة الشرق الأوسط، وهذه مسألة لا يجب أن يتم تجاهلها كما فعلت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، في واحدة من الأخطاء الفادحة التي وقعت فيها تلك الإدارة.
وقناعتي أن الوضع هذه المرة مع إدارة ديمقراطية سيكون مختلفاً رغم حرص الكثير من المسؤولين السابقين في إدارة أوباما على لعب دور ما بتذكير الرئيس المنتخب بايدن بضرورة منح هذا الملف أولوية قصوى، ومن ذلك ما ذكره روبرت مالي المساعد الخاص للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، في مقابلة مع صحيفة فرنسية، بأن "إيران ليست معزولة في العالم، وبايدن يعطي الأولوية للعودة إلى الاتفاق النووي"، وهو تصريح لا يفهم في إطار كون مالي كان كبيراً لمستشاري باراك أوباما، بل في إطار أنه كان عضواً بفريق التفاوض الأمريكي بشأن الملف النووي الإيراني، حيث يعمل على إحياء إرثه السياسي بغض النظر عن المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، لدرجة أنه حل محل أعضاء فريق الرئيس المنتخب ليعلن بكل ثقة أن بايدن ونائبته كامالا هاريس يقومان بوضع ملامح سياساتهما الخارجية، وأن إحدى أولويات بايدن تتمثل في العودة إلى الالتزامات الدولية، بما في ذلك اتفاقية باريس للمناخ والاتفاق النووي مع إيران!
اللافت أن مالي اعترف في التصريح ذاته أن العودة إلى اتفاقية باريس للمناخ ستتم بمزيد من الإجماع وأسهل؛ لكن العودة إلى الاتفاق النووي "ستكون أكثر حساسية وتحديًا بسبب تداعياتها الجيوسياسية على الشرق الأوسط"، فضلاً عن إحجام حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، عن منح الاتفاق قبلة اوكسجين جديدة تعيده للحياة، وهو اعتراف مهم، رغم غرابته، ويؤكد أن القرار لن يكون سهلا بالمرة على الرئيس المنتخب، لاسيما في ظل ما لم يشر إليه تصريح المسؤول الأمريكي السابق بشأن استفزازات ملالي إيران المستمرة وتجاوزهم للسقف المسموح به لتخصيب اليورانيوم بحسب الاتفاق النووي، وكذلك تهديداتهم وتدخلاتهم المتصاعدة في دول الجوار، ناهيك عن أن المدى الزمني للاتفاق ذاته قد أوشك على الانتهاء وباتت العودة إليه بالشروط ذاتها تمثل إهانة للولايات المتحدة وهدية مجانية لملالي إيران بالادعاء بقدرتهم على إخضاع واشنطن لشروطهم ومطالبهم.
والحاصل إيرانياً أن الرئيس روحاني وفريقه يرون في انتخاب بايدن فرصة جديدة لبلادهم، حيث قال روحاني مؤخراً إن بلاده تبحث عن فرصة جديدة مع الإدارة الأمريكية الجديدة، ونقل التلفزيون الرسمي عن روحاني خلال اجتماع لمجلس الوزراء قوله إنه "مع الإدارة الأمريكية الجديدة، نحن في طريقنا للحصول على فرصة"، مضيفاً إن "الإدارة الأمريكية الجديدة تحول الوضع نحو الامتثال، أي أننا ننتقل من جو التهديد إلى جو الفرص". وكان وزير الخارجية محمد جواد ظريف قال في مقابلة مع صحيفة "إيران" الحكومية في وقت سابق، إن "الغاء بايدن للعقوبات الأمريكية على إيران وعودة طهران لتعهداتها في الاتفاق النووي ليس بالأمر الذي يستغرق وقتاً"، وأوضح ظريف إن "إيران لا تعارض المفاوضات مع الولايات المتحدة وهذه القضية ممكنة في إطار مجموعة 5+1"، لافتاً إلى أنه "إذا نفذ جو بايدن تعهدات واشنطن في الاتفاق النووي فإن إيران ستعود فوراً وبالكامل إلى تعهداتها في هذا الاتفاق"، وهذا يؤكد ماقلناه بشأن التفاؤل البالغ من جانب الملالي بقرب عودة الولايات المتحدة للاتفاق، وهو أمر لن يحدث بالسهولة التي يتوقعونها، ولكن على الإدارة الأمريكية المقبلة أيضاً أن تتوخى الحذر وتتفادى الفخ، وتعيد فتح الملف للنقاش بالكامل قبل أن تتخذ أي قرار متسرع، وتحول دون تكرار خطأ إدارة أوباما بتجاهل وجهات نظر حلفاء واشنطن في منطقة الخليج العربي.
الحقيقة أن عودة الولايات المتحدة للاتفاق من دون شروط واتفاق مسبق حول بقية القضايا المهمة التي لم يشملها الاتفاق النووي الذي بات ميتاً أكلينيكياً، سيضع الدبلوماسية الأمريكية في مأزق صعب ويوفر للملالي الفرصة لهدر الوقت ربما لسنوات رئاسة بايدن الأربع في البحث عن صيغة جديدة لاتفاق نووي يرضي أهوائهم وفق نظرية "حائك السجاد"، التي جعلت التفاوض حول الاتفاق القديم يستغرق أكثر من خمس سنوات!