في ضوء ما يحدث حولنا من تطورات استراتيجية متسارعة للغاية، وبصرف النظر عما إذا كان هذا التغير سينتج شرق أوسط جديد أم "معدل"، يمكن القول بأن الشرق الأوسط يتغير وبسرعة شديدة، وهناك شواهد عدة على ذلك، منها فتح قنوات العلاقات الرسمية بين بعض دول مجلس التعاون واسرائيل، وتحول هذه العلاقات إلى موضوع قابل للنقاش والأخذ والرد بعدما كان جامداً في منطقة يصعب الاقتراب منها ولو على سبيل النقاش البحثي لسنوات وعقود مضت؛ وهذا التغير بحد ذاته ينطوي على نتائج كثيرة، والأمر هنا لا يتعلق بمسألة بناء تحالف ضد ملالي إيران أو غير ذلك، ولكن مجرد وجود علاقات شراكة استراتيجية في مجالات عدة بين بعض دول مجلس التعاون واسرائيل يعني أن هناك بيئة استراتيجية جديدة وهناك معادلة جديدة يجب أخذها بالاعتبار من كافة اللاعبين الاقليميين سواء تعلق الأمر بالملالي أو بغيرهم، فشبكات المصالح الاستراتيجية المشتركة بين الأطراف الاقليمية باتت تمثل ركائز للأمن القومي للدول، وباتت اهميتها تفوق فكرة التحالفات العسكرية التقليدية التي لم تعد تمتلك البريق والوهج الذي كان لها في النصف الثاني من القرن العشرين.
ولنأخذ الصين على سبيل المثال، كنموذج للتأثير في بنية النظام الدولي والعلاقات الدولية من دون أن تطلق رصاصة واحدة، ولا حتى تلوح بترسانتها العسكرية في وجه خصومها ومنافسيها الاستراتيجيين، وهذا يشير بقوة إلى مستوى التأثير الكبير الذي تمتلكه القوة الناعمة في القرن الحادي والعشرين. والامارات واحدة من الدول التي تضاهي هذا النموذج في النفاذ إلى المسرح الدولي عبر بوابة القوة الناعمة، حيث استطاعات عبر اتفاق السلام مع اسرائيل أن تحرك المياه الراكدة في منطقتنا لسنوات طويلة، وسواء اتفاق الجميع مع أهمية هذا الاتفاق ودوافعه الاستراتيجية أو اختلفوا، فإنه يبقى متغيراً استراتيجياً استطاع التأثير بقوة في الواقع الاقليمي، لا سيما بعد أن هدأت الانفعالات اللحظية التي قابل بها البعض هذا الاتفاق، واكتشاف الجميع أنهم أمام تحرك دبلوماسي يخترق جدار الصمت ويقفز على ما كان يُعتقد أنه فضاء خالياً من البدائل والحلول الاستراتيجية في التعاطي مع الواقع المعقد لقضية بالغة الأهمية للدول والشعوب العربية والاسلامية، مثل القضية الفلسطينية، التي عانت طويلاً من جمود تفاوضي وضعفاً وترهلاً في الخيال السياسي دفع بها إلى أدراج النسيان لدى أطراف دولية يفترض أن لها أدوار حيوية تلعبها من أجل ايجاد تسوية سياسية عادلة تتعامل مع جذور الصراع وتبلور صياغات جديدة قادرة على تحقيق تطلعات الفلسطينيين، وتضمن إحلال الأمن والاستقرار والسلام والتعايش في هذه المنطقة الحيوية من العالم.
ومن البديهي أن هذا المسار في التعامل مع قضايا المنطقة من خلال البحث عن المشتركات وبناء أرضية صلبة للحوار، يٌقابل برفض وصراخ من قبل دعاة الفتن والحروب والصراعات، من أنظمة لا تمتلك مشروعاً تنموياً حقيقياً لشعوبها، بل تقتات على شعارات أيديولوجية فارغة وتهدر ثروات الدول والشعوب في ساحات حروب لا ناقة لهذه الشعوب بها ولا جمل، ومن ثم باتت منطقة الشرق الأوسط في حقيقة الأمر تعيش صراعاً بين رؤيتين أو معسكرين أحدهما يسعى للسلام والحوار والتنمية، والآخر يسعى لإشعال الحروب وتوسيع الصراعات واستدامة سفك الدماء بدلاً من استدامة التنمية وتحقيق تطلعات آمال عشرات الملايين من الشباب الذين تكتظ بهم مدن المنطقة وقراها وباتوا يمثلون بالفعل قنبلة موقوتة لا تمثل خطراً على أنظمة الحكم في دولهم فقط، بل على الأمن والاستقرار الاقليمي والعالمي بأكمله نظراً لأن هذا المخزون البشري الهائل من القوة العاطلة يمثل ثروة كامنة تغذي تنظيمات التطرف والارهاب وتزودها بما تحتاج من عناصر مهيأة لتنفيذ مخططاتها الاجرامية تحت ضغط اليأس والاحباط الذي يعانيه شريحة ليست هينة من الشباب في دول وقعت فريسة لأنظمة شعبوية مؤدلجة لا هم لها سوى تصدير الوهم وانتاج الشعارات الميلشياوية التي تتمحور جميعها حول العنف والحروب وتصدير الفوضى ونشر التطرف وترسيخ الطائفية بدلاً من التعايش والتسامح وقبول الآخر.