ليس هناك من تفسير للمشاكل التي تحاصر الدولة التركية على الصعد السياسية والاقتصادية والأمنية سوى أخطاء سياسات "السلطان" رجب طيب اردوغان، الذي نجح بامتياز في نسف كل المكتسبات الاستراتيجية، التي تحققت على مدار العقدين الماضيين وأهدرها تماماً في مغامرات عسكرية فاشلة، لدرجة أن تركيا، وهي عضو رئيسي في حلف شمال الأطلسي (ناتو) باتت تُعامل كعدو أو حتى دولة غير صديقة من جانب شركائها في الحلف! الشاهد على حالة التنافر والتباعد غير المسبوقة بين تركيا وبقية أعضاء حلف الاطلسي أن الولايات المتحدة قامت بتوقيع عقوبات على أكبر هيئة للصناعات الدفاعية التركية ورئيسها، كما قرر الاتحاد الأوروبي تشديد العقوبات ضد تركيا أيضاً في موقف دفع تركيا ذاتها إلى الاعتراف بأن العقوبات الأمريكية قد "هزت" أسس التحالف بينها وبين الولايات المتحدة وقوضت الثقة بين حلفاء الناتو!
الحقيقة أن الاتحاد الأوروبي قد أتاح للنظام التركي الكثير من الوقت والفرص كي يتراجع عن سياساته العدائية تجاه بعض دول الاتحاد، وفي مقدمتها اليونان وفرنسا، حتى أن القرار الأخير بتشديد العقوبات قد تضمن تأجيلاً للتطبيق حتى مارس المقبل، لإمهال تركيا حتى ذلك الموعد لتغيير موقفها بشأن التنقيب في البحر المتوسط والتخلي عن السياسات الصدامية تجاه اليونان وحل المشاكل العالقة معها.
ورغم أن هناك من يهون من أثر العقوبات الأمريكية الموقعة ضد تركيا، فإنها تنطوي بحد ذاتها على رسالة مهمة ولا يمكن تجاهلها بالنظر إلى تاريخ التحالف التركي ـ الأمريكي سواء داخل منظومة حلف الأطلسي أو على المستوى الثنائي، فتركيا التي كانت تمثل حائط الصد الامامي للغرب في مواجهة المد الشيوعي إبان حقبة الحرب الباردة، باتت تواجه عقوبات من حلفائها بسبب تعاون عسكري غير مرغوب فيه أطلسياً مع روسيا، وأنها باتت هدف لعقوبات أمريكية بموجب قانون "مكافحة أعداء أمريكا" المعروف باسم "كاتسا"، وهذا يعني أن هناك مياهاً جديدة تسري في شرايين العلاقات بين حلفاء الأمس واليوم، وأن معادلات استراتيجية جديدة على وشك التشكل والظهور في فضاء هذه العلاقات، ما لم تتوصل الأطراف إلى صفقات جديدة، ناهيك عن أن العقوبات الأمريكية ليست شخصية أو ضد أفراد يمكن تغييرهم فقط، بل طالت تراخيص التصدير الأمريكية وهي ضربة موجهة للصناعات العسكرية التركية التي تعتمد على استيراد بعض قطاع الغيار الرئيسية من الولايات المتحدة، فضلاً عما تحمله من تأثيرات نفسية ومادية مباشرة وغير مباشرة على الاقتصاد التركي الذي يعاني بشدة بسبب جائحة "كورونا" وارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية غير مسبوقة.
والحقيقة أن العقوبات الأمريكية تحديداً هي الأكثر تأثيراً وأشد وقعاً على "السلطان" التركي، الذي كان يستبعد تماماً فرض أي عقوبات على بلاده، على الأقل خلال الفترة القليلة المتبقية من ولاية الرئيس دونالد ترامب، ولم يكن يتخيل أن الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب ربما يريد التخلص من فكرة ارتباطه بعلاقات شخصية قوية مع أردوغان بما يضر بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية، ومن ثم قرر منح الضوء الأخضر لهذه العقوبات لفك الارتباك واستئصال هذه الفكرة تماماً، كما راهن أردوغان على الارتباط العضوي القوي والدور المركزي لتركيا في منظومة حلف الأطلسي، ولكنه لم يفطن إلى أن ترامب لا يعطي الحلف أهمية كبرى في حساباته، بل إن الحلف ذاته لم يعد يحظى بالأهمية السابقة التي كانت له لدى أعضاء مؤسسين مثل فرنسا، التي سبق أن تحدث رئيسها ماكرون العام الماضي عن موت الحلف "أكيلينكياً" أودماغياً بسبب غياب القيادة الأمريكية، وبالتالي فلم تعد تركيا تحظى بالأهمية ذاتها لدى دول رئيسية في الحلف، كما لم يعد لدورها الأطلسي أهمية كبرى لدى صانع القرار الأمريكي، وتحديداً الرئيس ترامب الذي يمتلك رؤية مغايرة للتحالفات الاستراتيجية الأمريكية، ناهيك عن زوال الأسباب التي كان ترامب يتحدى بسببها إرادة الكونجرس الذي أقر بأغلبية كبيرة قانون موازنة الدفاع لعام 2021، متضمناً بنداً ينص على فرض عقوبات ضد تركيا، واتجه إلى مناقشة مشروع قانون يتضمن بنداً يلزم الرئيس بفرش عقوبات على أنقرة.
ظل أردوغان يردد أن التهديدات الأمريكية بفرض عقوبات على بلاده "جوفاء"، وراهن على أن الرئيس ترامب قد عارض هذه الفكرة لفترة طويلة من رئاسته معارضاً مستشاريه الذين أوصوا بفرضها منذ يوليو 2019، منذ بدء استلام تركيا لمنظومة صواريخ "إس ـ400" الروسية، ودفعته الغطرسة السياسية إلى وضع تركيا في مرمى عقوبات الحلفاء وتحولها تدريجياً من شريك إلى خصم أو على الأقل تآكل خصوصية علاقاتها مع القوى الغربية.