بعد حقبة طويلة من الهيمنة والانفراد الأمريكي باعتلاء قمة هرم النظام العالمي الذي نشأ بعد انهيار ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، وبعد حالة من الجدل بين نخب الخبراء والأكاديميين حول مصير الامبراطورية الأمريكية ومستقبلها في القرن الحادي والعشرين، أقر الرئيس جو بايدن ـ في تصريح لافت ـ بعدم وجود دولة تستطيع بمفردها حل المشاكل الدولية الراهنة.
صحيح أن تصريح الرئيس بايدن يعكس واقع الأمور في العلاقات الدولية الراهنة، وفي ضوء صعود قوى دولية مثل الصين وروسيا، والأخيرة تحديداً تلعب دوراً مؤثراً في العديد من مناطق الأزمات والصراعات عالمياً، وصحيح كذلك أن هذا التصريح جاء في إطار ما يمكن وصفه بـ"ضربة البداية" لاستعادة زخم العلاقات بين الحلفاء عبر الأطلسي، حيث أدلى بايدن بهذا التصريح في مستهل جولة أوروبية مهمة للمشاركة في عدد من الاجتماعات رفيعة المستوى، ولكن هذا كله لا يقلل من أهمية حديث الرئيس الأمريكي المخضرم عن أن "العالم يتغير"، وأن الوضع الدولي الحالي " وأنه "يختلف جوهريا حتى عما كان عليه قبل 10 سنوات".
تصريحات الرئيس بايدن جاءت في لهجة تصالحية مغايرة لتلك التي اعتاد عليها العالم خلال فترة ولاية الرئيس السابق ترامب، ولكن اللافت أنها بدت أقرب إلى "الخطاب التصالحي" الذي ساد خلال فترتي ولاية الرئيس الأسبق باراك أوباما، حيث تحدث بايدن عن "عالم تشاركي" ودبلوماسية دولية تعددية لا ترتكز على قطب واحد، وهو حديث لا يحيد عن رؤية بايدن التي أوردها طيلة الفترة الماضية ضمن حديثه عن الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الأمريكية، وعلاقة بلاده بحلفائها. حيث تحدث بايدن عن بناء مستقبل مشترك يسعى إليه الجميع، وأن الولايات المتحدة لن تحاول فرض إرادتها على دول أخرى لتحقيق مثل هذا المستقبل، لافتا إلى أنه "مستقبل تكون فيه الدول خالية من الإكراه أو السيطرة من قبل الدول الأكثر قوة"، وأن مثل هذا المستقبل يفترض مسبقا أن الفضاء البحري والجوي والخارجي الدولي سيظل "حرا ومتاحا لمنفعة الجميع".
بايدن الذي ركز في حديثه على تحييد "التهديدات البيولوجية" المستقبلية، وحل مشكلة تغير المناخ العالمي، دعا إلى تعاون دولي وإجراءات تعددية منسقة، والتزام دولي بـ "اتخاذ إجراءات مناخية طموحة، إذا أردنا منع أسوأ العواقب لتغير المناخ"، ويبدو من تحركاته على أرض الواقع أنه يسعى للحوار مع قوى دولية ينتقدها بشدة مثل روسيا، ما يعني أنه يعتمد بقوة على الدبلوماسية لتحقيق أمرين مهمين أولهما: الدفاع عن مصالح الولايات المتحدة وتحقيق رؤيته بشأن الملفات والقضايا الدولية المأزمة مثل التغير المناخي وغيرها، وثانيهما: تأكيد رؤيته الخاصة بعودة الولايات المتحدة إلى ممارسة دورها القيادي العالمي من خلال قيادة بقية القوى الدولية لحل مشاكل العالم من خلال جهد تشاركي.
السؤال الذي يطرح نفسه تلقائياً هنا هو: هي يعكس هذا التصريح إقراراً من الرئيس بايدن بتراجع النفوذ الأمريكي وقبول واشنطن لفكرة التعددي القطبية والتخلي عن القيادة المنفردة للنظام العالمي؟ الجواب هو أن المعطيات الراهنة لا تسمح باجترار الحديث عن قيادة أمريكية منفردة للنظام العالمي سواء لأن المشكلات والتحديات العالمية باتت تفوق فعلياً طاقة أي دولة أو قوة عالمية ـ مهما كانت قدراتها الشاملة ـ على مجابهتها والتصدي لها، أو لأن هناك صعود لافت لمنافسي وخصوم الولايات المتحدة الاستراتيجيين، ومن الحكمة أن تتقبل واشنطن منح دور لهؤلاء المنافسين بدلاً من الصدام والمواجهة التي لا طائل من ورائها، لاسيما في ظل تراجع دور ونفوذ الولايات المتحدة بشكل ملحوظ خلال فترة ولاية الرئيس ترامب جراء النهج الانعزالي الذي ساد خلال تلك الفترة، والذي تسبب في ايجاد فراغ قوة تمددت فيه قوى دولية منافسة، وبات يصعب ازاحتها نهائياً عن الساحة، علاوة على ان أزمة تفشي وباء "كورونا" قد أسفرت عن حقائق ومتغيرات استراتيجية جديدة بحيث لم يعد العالم كما كان من قبلها، بل طرأ واقع جديد لا يصب في مصلحة الولايات المتحدة كثيراً، وهو ما يحاول الرئيس بايدن الحد من آثاره وتداعياته من خلال مبادرات مثل تلك التي أوردتها التقارير الاعلامية بشأن توفير حوالي 500 مليون جرعة من لقاح "فايزر" المضاد لفيروس "كورونا" لنحو 100 دولة خلال العامين المقبلين ليؤكد ما يقوله دائماً منذ بداية حكمه بأن "الولايات المتحدة عادت".
النقطة الأهم ـ برأيي ـ أن بايدن لا يتحدث فيما يبدو عن تعاون دولي جماعي بقدر مايؤكد على "حشد ديمقراطيات العالم" في مواجهة التحديات، وبالتالي فالأمر يتعلق باستعادة روابط التحالف الأطلسي، ويعبر عن قلق أمريكي فعلي من الصعود الصيني والدور الروسي، وهنا نشير إلى مصادقة الكونجرس الأمريكي مؤخراً على مشروع قانون ينص على تخصيص 250 مليار دولار، بهدف تعزيز قدرة البلاد على التصدي لتنامي التكنولوجيا في القطاع الاقتصادي والعسكري الصيني، حيث تفوقت الصين على الولايات المتحدة في سباق شبكات الجيل الخامس ((G5، بينما بدأت خلال وقت سابق من العام الجاري، إجراء بحوث تمهد لإطلاق الجيل السادس بحلول نهاية العقد الحالي، كما تسجل الصين معدلات نمو تضعها على رأس أكبر الاقتصادات العالمية بحلول منتصف العقد الجاري، بحسب بيانات لصندوق النقد الدولي، وبالتالي فالرئيس بايدن حين يتحدث عن تعددية دولية فهو يشير بالدرجة الأولى إلى أهمية تعاون بلاده مع حلفائها الأوروبيين، وضرورة استعادة خصوصية الشراكة الأطلسية، مع تغليب الحوار والدبلوماسية في إدارة العلاقات مع الصين وروسيا بحثاً عن حلول ومعالجات للأزمات والتحديات التي تواجه العالم.