لم تكن الصين أكثر اهتمام بتصدر المشهد العالمي والحديث عن دور رئيسي في قيادة النظام العالمي القائم أكثر من الوقت الراهن، فالقيادة الصينية قد تخلت فيما يبدو عن حذرها السابق في التعاطي مع مسألة قيادة العالم، حيث أكد الرئيس الصيني شي جينبينغ مؤخراً أمام جلسة للمكتب السياسي للحزب الحاكم، أن "على الصين أن تؤكد نفسها بشكل أكثر فاعلية على المسرح العالمي لتقوية صوتها ومكانتها"، وبحسب مقال نشرته صحيفة "التايمز" فقد طالب جينبينغ ببناء "نظام تواصل استراتيجي بخصائص صينية مميزة" لقيادة الرأي العام العالمي.
وتؤكد الشواهد أن الصين قد استشعرت الخطر جراء الحرب الدعائية التي تُشن ضدها على خلفية تفشي وباء "كورونا" المستجد، لاسيما حين وصف الرئيس الأمريكي السابق ترامب "كوفيد ـ19" بالفيروس الصيني، في صدمة استفزت الصين استفزازاً كبيراً، ما دفعها للتخطيط لحملات دعاية وعلاقات عامة للتخلص من الصورة السلبية التي لحقت بها رغم جهودها الدولية الكبيرة في مجال مكافحة الوباء، فضلاً عن الدعم والمساعدات التي قدمتها لعشرات الدول على صعيد التصدي للجائحة، والتي تقدر بنحو ملياري دولار.
ولاشك أن دعوة الرئيس الصيني إلى تحسين الاتصالات الدولية مع العالم لإصلاح صورة البلاد التي تضررت بسبب الاتهامات والمزاعم عن مسؤوليتها عن تفشي فيروس كورونا، وكل ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما وصفه بينغ بحرب الروايات مع الولايات المتحدة وحلفائها، ويعني بذلك ضرورة امتلاك الصين المصداقية الدولية اللازمة لنشر وتعزيز "روايتها" بِشأن أي واقعة أو حادثة مشابهة مستقبلاً، باعتبار ذلك جزءاً لا يتجزأ من هيبة القوى الكبرى ونفوذها الدولي.
الحقيقة أن الصين تخطو تدريجياً نحو ساحة الصراع على قيادة النظام العالمي، وبالتالي فقد باتت هدفاً لحملات الدعاية المضادة من جانب منافسيها الاستراتيجيين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، ما يتسبب في أضرار لصورتها الذهنية، والمعضلة الأساسية التي ستواجه الصين على هذا الصعيد تكمن في أنها ستخوض منافسة وفقاً لمعايير منافسيها، بمعنى أن الشفافية وحرية الاعلام وغير ذلك هي معايير وقواعد غربية تستغل في اتهام الصين بممارسة التعتيم على أخبار كوورنا منذ بداية تفشي الوباء، وهي حملات امتدت للتشكيك في فعالية اللقاح الصيني، رغم ما يعانيه مئات الملايين حول العالم جراء عدم قدرتهم على الحصول على أي لقاح يسهم في تخفيف انتشار الوباء.
والمؤكد أن "الصورة الذهنية" تمثل أحد ركائز الصراع الدولي على القوة والنفوذ في مرحلة مابعد كورونا، فالصورة تعني القوة الناعمة للدول، وسلبيتها ـ كلياً أو جزئياً ـ تعني خسارة هذه القوة كركيزة من ركائز الصراع الدولي، ولذا تسعى الصين التي تمتلك شبكة واسعة من وسائل الاعلام الناطقة باسمها إلى تعزيز وجودها في ساحات التنافس الاعلامي العالمي. ولكن الأمر لا يتعلق فقط بصراع اعلامي فهو بالأساس صراع حول القيم والأيديولوجيات، فالنموذج الصيني يجد نفسه في حالة صدام مع القيم الليبرالية الغربية، التي نجحت في فرض نفسها بعد طي صفحة الباردة.
والواضح أن مواصلة الصين صعودها إلى قمة النظام العالمي بات مرهون بالتخلي عن دبلوماسية الظل، والخطوات الحذرة التي انتهجتها بكين طيلة العقد الماضي، فالقوة الصيني المتزايدة لم تعد قابلة للتجاهل أو التغييب، بل بات لها دور رئيسي فاعل في الاقتصاد العالمي، والأمر لا يقتصر على ذلك، بل استغلت الصين غياب الدور الأمريكي إبان ذروة أزمة كورونا عالمياً، ونجحت في التمدد استراتيجياً لملء الفراغ الناجم عن غياب الولايات المتحدة في بدايات الأزمة وانشغالها بتفشي الجائحة على أراضيها بشكل خالف كل التوقعات، ولكن هذا التمدد لم يكن بعيداً عن عيون المؤسسات الأمريكية التي تضع الصعود الصيني تحت الرقابة المشددة، فلم تغب "رسالة" هذا الصعود وأهدافه الاستراتيجية عن حسابات الجانب الأمريكي الذي يدرك أنه بصدد خصم استراتيجي قوي وعنيد يستعد جدياً لتهديد عرش الامبراطورية الأمريكية.
الواقع يقول أن المواجهة الفعلية بين الولايات المتحدة والصين تدورها رحاها في الدول النامية، حيث يتلاقى نموذجا القوة الناعمة، الصيني والأمريكي، ويمكن القول أن الصين قد حققت مكاسب كبيرة في هذه المعركة خلال أزمة تفشي وباء "كورونا"، ولكن الأمر لم يحسم بعد بالنظر إلى حملات الدعاية الضخمة التي لا تزال تستهدف صورتها.