كان واضحاً قبل بداية جولته الخارجية الأولى، أن الرئيس الأمريكي جو بايدن يسعى لحشد "الديمقراطيات الغربية" ضد الصين، وأنه يريد "تحييد" روسيا والابقاء على الصين خصماً أو تهديداً استراتيجياً أساسياً للولايات المتحدة وحلفائها الأطلسيين، فهل نجح الرئيس بايدن في مهمته؟ الشواهد تقول أن بايدن نجح إلى حد كبير في مهمته الأكثر حساسية، حيث وضع حلف الأطلسي الصين للمرة الأولى في قلب جدول أعماله، وذكر في بيان ختامي أن تصرفات الصين، بما في ذلك توسيع ترسانتها النووية، تهدد "أسس قواعد النظام الدولي"، وحذر من "تحديات ممنهجة" تشكلها الصين، ما دفع بكين لاتهام الحلف بتشويه سمعتها، والتأكيد على أن سياستها العسكرية ذات "طابع دفاعي"، داعية إلى المزيد من التركيز على الحوار.
الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ قال إن الأطلسي لا يريد حرباً باردة مع الصين، وأنها "ليست خصمنا وليست عدونا"، لكنه أضاف "علينا أن نتصدى معاً،كحلفاء، للتحديات التي يفرضها الصعود الصيني على أمننا"، وهذا يعني بالتبعية أن أعضاء الأطلسي قد توافقوا على أن الصين تمثل تحدياً جيواستراتيجياً للحلف، وأن هناك توافق على التصدي لهذا التحدي بغض النظر عن الرغبة في نشوب حرب باردة جديدة من عدمه.
وباعتقادي، فإن الصعود الصيني المتسارع يمثل طوق انقاذ للحلف الذي يواجه أزمة هوية في السنوات الأخيرة، ويعاني انقسامات حادة بين أعضائه بسبب الميزانيات الدفاعية للدول الأعضاء، فضلاً عن التوترات العسكرية بين بعض الأعضاء كما هو الحال بين تركيا واليونان. ولاشك أن أهمية موقف "الأطلسي" تزداد بالنظر إلى أنه يأتي في اعقاب انتقادات وجهتها مجموعة السبع الصناعية أيضاً إلى بكين، على خلفية مزاعم بحدوث انتهاكات لحقوق الانسان وكذلك حول ضرورة الشفافية بشأن منشأ فيروس "كورونا" المستجد، وهو ما دفع الصين لاتهام المجموعة بترويج الأكاذيب والشائعات والاتهامات التي لا أساس لها من الصحة.
رد الصين على بيان مجموعة السبع الصناعية كان أقوى بمراحل من تفاعلها مع البيان الختامي الصادر عن قمة حلف الأطلسي، حيث قال متحدث باسم سفارة الصين بالعاصمة البريطانية "لقد ولت الأيام التي كانت مجموعة صغيرة من الدول تملي فيها القرارات العالمية" وأضاف "نعتقد دائماً أن الدول "كبيرة كانت أم صغيرة، قوية ام ضعيفة، فقيرة أم غنية، متساوية، وأنه ينبغي التعامل مع الشؤون العالمية من خلال التشاور بين جميع البلدان"، وهو موقف لافت وخطاب حاد للدبلوماسية الصينية رغم أن محتواه لا يحيد عن المبادىء التي تنطلق منها السياسة الخارجية الصينية في علاقاتها الدولية بشكل عام. ويبدو أن الخطاب الصيني هنا يؤكد بقوة على رفض الصين الانصياع للقواعد السائدة في النظام العالمي القائم، بكل ما يمثله من كتل اقتصادية وصناعية، وأنها تريد الاستماع لصوتها وتركز في ذلك على حشد دول العالم النامي من خلفها حيث تظهر وكأنها المتحدث باسم مجموعة كبيرة من الدول غير الممثلة في المجموعات القائدة للنظام العالمي.
الواضح للمحللين أن حديث الرئيس بايدن وتركيزه على فكرة "حشد الديمقراطيات الغربية" يعني أنه يريد استباق جولات تشكيل عالم مابعد كورونا وتكريس واقع صراعي عالمي جديد يدور فيه التنافس بين الديمقراطيات والدول التي يصفها بالاستبدادية، وقد سعى بكل قوة إلى حشد الدول الصناعية ة لصياغة رد جماعي على الصعود الصيني، ولكن الملاحظ كذلك أنه رغم الخطاب الغربي المشترك فإن هناك ثغرات عدة يمكن للصين النفاذ منها مثل حجم المصالح المشتركة الضخم بين الصين وبعض الديمقراطيات الغربية لاسيما في أوروبا، ناهيك عن أن دول مجموعة السبع نفسها ليست على توافق تام بشأن توصيف الصين وهل هي شريك أم خصم أو منافس أو تهديد أمني، فالتركيز الآن هو البحث عن رد موحد على التحدي الصيني، من دون تحديد طبيعة هذا الرد ولا وضع برنامج زمني لتنفيذه، فالصين التي تستقطب دول العالم، ومنها بعض الديمقراطيات الغربية الكبرى، بمبادرة الحزام والطريق، تمضي بسرعة هائلة على درب الصعود العالمي في حين لا تزال مبادرة الرئيس بايدن التي تتمحور حول خطة إعادة بناء عالم أفضل Build Back Better World B3W والتي يفترض أنها البديل الجيواستراتيجي للمبادرة الصينية، لا تزال هذه المبادرة غير واضحة المعالم، حتى أن المستشارة الألمانية انجيلا ميركل قد أكدت أن مجموعة السبع لم تصل بعد إلى مرحلة الافراج عن تمويل لمبادرتها.
اللافت في هذه السجالات أن الأمر لا يتعلق بمنافسة بين مبادرتين، صينية وغربية، بل يدور بالأساس حول رغبة الولايات المتحدة في مواجهة الصعود الصيني في مختلف أرجاء العالم، والتصدي لمبادرة الحزام والطريق، وهذا ربما يقود بالتبعية إلى حالة من الانقسام والثنائية الدولية على غرار ماحدث إبان الحرب الباردة ولكن بصورة وآليات مغايرة تماماً لأن الأمر يتعلق بصراع القيم والمصالح السياسية وليس الأيديولوجيات والأفكار.
الخلاصة أن تركيز جهود الرئيس بايدن على الصين في الفترة الراهنة يعكس هواجسه المتنامية حيالها، ويؤكد تطور فكرته القائلة بأن الصين ليست منافساً للولايات المتحدة كما كان يردد أثناء حملته الانتخابية، لدرجة أنه حذر في مايو الماضي ـ أمام مجموعة من العسكريين الأمريكيين ـ من أن الصين تفكر بالسيطرة على أميركا وامتلاكها في السنوات ألـ15 المقبلة، وبرر ذلك بأن "الأنظمة الاستبداية بوسعها قرارات سريعة".