يتحدث الكثير من المراقبين والمحللين هذه الأيام عن تأثير الحالة السياسية الايرانية التي يتصدرها وجوه محسوبة على التيار الأكثر تشدداً، في ظل غياب تام لصوت الاعتدال والبراجماتية كما كان يسميه البعض في فترات سابقة. وتركز النقاشات في معظمها على الانعكاسات الجيواستراتيجية الدولية المتوقعة لهذه الحالة، وهي انعكاسات مهمة بطبيعة الحال، ولها امتدادات اقليمية مؤكدة، ولكنني أرى أن التأثيرات الاقليمية لغلبة التشدد الايراني، بغض النظر عن دوافعه ومراميه التي تناولتها في مقالات أخرى، قد تكون أشد خطورة وتأثيراً من البٌعد الدولي لهذه التغيرات، باعتبار أن الشرق الأوسط، وتحديداً دول مجلس التعاون والعراق وسوريا بالاضافة إلى اسرائيل، هي الطرف الأكثر تأثراً بالنهج الايراني القائم على انتهاك القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة، وهي من يدفع ثمن العربدة الايرانية المستمرة في الاقليم منذ توقيع الاتفاق النووي المعروف بـ "خطة العمل المشتركة الشاملة" مع مجموعة "5+1" عام 2015.
في البداية لابد من التأكيد على أن تعاطي دول المنطقة مع رئيس ايراني متشدد ليس أمراً جديداً، إذ سبق أن تولى أحمد نجاد السلطة في إيران (2005 ـ2013) خلفاً لمحمد خاتمي، وقلب وجه إيران رأساً على عقب، قولاً وفعلاً، وبالتالي فالأمر ليس جديداً، ولكن الجديد ـ برأيي ـ هو أن ابراهيم رئيسي ربما يكون بالفعل هو "أكثر رؤساء إيران تطرفاً" كما وصفته اسرائيل وذلك لأسباب واعتبارات عدة أهمها أن يختلف عن نجاد على مستوى السيرة الذاتية والمهنية، بحيث يمكن القول ان نجاد كان متطرفاً على مستوى الخطابة ورئيساً من النوع "الشعبوي" الذي يهوى حشد الأنصار بالخطب الحماسة وافتعال المعارك السياسية والكلامية مع خصوم النظام داخلياً وخارجياً، لكن رئيسي يبدو بشكل مختلف تماماً من حيث نوعية التشدد والتاريخ المهني، كما أن تطابق مواقفه وسياساته مع المرشد الأعلى علي خامنئي يحول دون وجود أي حائط صد أو مراجعة ـ ولو شكلية كما كان يحدث مع روحاني وغيره ـ لقرارات واملاءات المرشد على صعيد السياسة الخارجية، ناهيك عن أن طموحه الشخصي لخلافة المرشد الحالي سيجعل منه شخصية لا تميل إلى المرونة بحكم أن الحفاظ على مبادىء الثورة الخمينية وروحها أحد أهم سمات المرشد الذي يختاره مجلس خبراء القيادة، ولذلك فإن رئيسي سيقوم بدور الرئيس وعينه تماماً على كرسي المرشد، وسيحاول أن يكرر تجربة خامنئي الذي كان رئيساً للبلاد ثم جلس على هذا الكرسي خلفاً للخميني، لاسيما أن سن الرئيس الجديد وخبراته المتنوعة في مؤسسات النظام فضلاً عن قربه الشديد من خامنئي، جميعها مؤهلات تسمح له بالتطلع إلى الوصول إلى قمة هرم السلطة في حال وفاة المرشد الأعلى الذي يعاني أمراض عدة.
رئيسي أيضاً سيكون حريصاً على موالاة الحرس الثوري الايراني، وضمان رضاء قادته كي تمضي مسيرته الرئاسية وتطلعاته لما بعدها بالشكل الذي يرضيه، وهذا يعني أن يمضي في تطوير البرنامج النووي الايراني بالشكل الذي يخطط له قيادات الحرس الثوري، كما سيكون خاضعاً لنفوذ هؤلاء القادة، على خلاف الرئيس روحاني وفريقه الحكومي، الذي لم يكن على وفاق مع الحرس الثوري خصوصاً في مجال السياسة الخارجية، حيث اتضح ذلك بوضوح في تسريبات وزير الخارجية جواد ظريف التي انتقد فيها تدخلات الجنرال قاسم سليماني في السياسة الخارجية للدولة.
والحقيقة أن سلوكيات نظام الملالي في المرحلة المقبلة اقليمياً تبدو مرهونة تماماً بما تنتهي إليه مفاوضات فيينا، والخطير في هذا الأمر أن هذه المخرجات لن تضع نهاية للعربدة الايرانية اقليمياً سواء توجت باتفاق تسوية يقضي بعودة الولايات المتحدة للاتفاق واستئناف الملالي لالتزاماتهم الواردة فيه، أو بفشل في ايجاد تسوية مناسبة؛ ففي كلتا الحالتين يعجز الاتفاق ـ سواء كان حياً أم ميتاً ـ عن السيطرة على السلوك الايراني الاقليمي، ولاسيما مايتعلق بالأذرع الطائفية المسلحة في دول ومناطق مختلفة، بالكل يعرف أن الاتفاق هو الرافعة الاستراتيجية التي ارتكزت عليها السياسات الايرانية في التمدد الاستراتيجي اقليمياً منذ عام 2015، وبالتالي فإن وجود الاتفاق أو موته اكلينيكياً لن يقدم أو يؤخر في هذا الشأن، بل إن اللافت أن التوصل إلى تسوية في فيينا قد تدفع الملالي للإسراع بالانتهاء من مخططهم الاقليمي ونشر المزيد من الفوضى والاضطرابات تحسباً لبدء المرحلة الثانية التي يتوقع أن تتلو أي تسوية متوقعة، وهي النقاشات حول مفاوضات جديدة بين إيران والقوى الدولية حول موضوعات وقضايا أخرى مثل البرنامج الصاروخي الايراني ونفوذ إيران الاقليمي!
السؤال الذي يطرح نفسه في ضوء ماسبق هو: ماهي خيارات دول المنطقة؟ قناعتي أن التعامل مع نظام الملالي بشكل فردي لا يجدي كثيراً لأن هذا هو ما تسعى إليه إيران منذ سنوات طويلة مضت، وهو تفكيك المنظومة الاقليمية ممثلة في مجلس التعاون والتعامل مع كل دولة مجاورة على حدة تمهيداً للتباحث حول بناء نظام اقليمي جديد أو منظومة أمنية اقليمية مغايرة تلعب فيها إيران الدور الرئيسي، فالملالي يدركون أن وحدة الصف الاقليمي تمثل معضلة لهم، والكل يذكر مدى غضب النظام الايراني من اقامة علاقات رسمية بين الامارات واسرائيل رغم الطابع السياسي والاقتصادي والعلمي البحت لهذه العلاقات، وبالتالي فإن التنسيق والتعاون وبلورة استراتيجية اقليمية مشتركة لمواجهة التهديدات الايرانية ربما تمثل عنصر ضغط قوي على سلوكيات الملالي خلال المرحلة المقبلة.
الخلاصة أن خيارات دول المنطقة في التعاطي مع نظام إيراني أكثر تشدداً قد تكون أسهل على عكس مايعتقد الكثيرون، لأن التشدد يزيل عن وجه الملالي قناع المراوغة والاعتدال الذي يفتح الباب أمام استقطاب المواقف الاقليمية وانقسامها بين مؤيد ومعارض للتقارب مع إيران، وبالتالي فإن وجود مواقف إيرانية كاشفة يمنح الجميع فرصة التفكير بعقلانية وهدوء بعيداً عن الوقوع في فخ الخداع.