هل يمكن أن تضمن الدبلوماسية بمفردها تحقيق وعود الرئيس الأمريكي جو بايدن بشأن استعادة هيبة الولايات المتحدة ونفوذها عالمياً، حيث قال في أولى كلماته بعد توليه منصبه "أمريكا عادت" على الساحة العالمية. هذا التساؤل يتجدد بعد أن أعلن بايدن في كلمته مؤخراً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عن انتهاء "عصر الحرب التي لا نهاية لها" وتدشين عهد الدبلوماسية،وقال بايدن "أنهينا الـ 20 عاما من النزاع في أفغانستان، وبينما نضع حدا لهذا العهد من الحرب التي لا نهاية لها، نفتتح عهد دبلوماسية لا نهاية لها"، وأضاف بايدن أن استخدام القوة العسكرية يجب أن يكون "آخر الأدوات، وليس الأداة الأولى"، ويجب "ألا يكون ردا على أي قضية في العالم".
الرئيس الأمريكي اقترب في هذا الطرح من وضع مبدأ استراتيجي جديد واستكمل رؤيته قائلاً "بلا شك، ستحمي الولايات المتحدة نفسها، ونحن مستعدون لاستخدام القوة، لكن كل مهمة يجب أن تكون واضحة الملامح وقابلة للتحقيق"؛ وأهمية هذه الرؤية تنبع من عوامل عدة أهمها عنصر التوقيت حيث يطرح الرئيس بايدن رؤيته عقب الانسحاب الأمريكي مباشرة، وفي ذروة التوتر مع إيران بشأن أزمة الاتفاق النووي، حيث تنطوي هذه الرؤية على رسالة واضحة ومؤكدة بشأن انتفاء أي احتمالات للصدام العسكري بين الولايات المتحدة وإيران بغض النظر عن الانتهاكات المتواصلة لنظام الملالي ولاسيما فيما يتعلق بتجاوز معدلات تخصيب اليورانيوم المنصوص عليها في الاتفاق النووي.
تركيز بايدن على الدبلوماسية في كلمته بالأمم المتحدة ليس جديداً، فقد سبق أن أكد في بداية ولايته على ضرورة "الاستثمار في دبلوماسيتنا" باعتبار أن ذلك "ليس شيئا نفعله لأن هذا هو الصواب للعالم وحسب، بل نفعله كي نحيا في سلام وأمان ورخاء، نفعله لأنه يصب في مصلحتنا الذاتية"، فضلاً عن كونه قد اختار وزارة الخارجية مكانا لإلقاء أول كلمة دبلوماسية رئيسية دلالة كبيرة على الأهمية التي يوليها للدبلوماسية والدبلوماسيين في تحقيق أهداف سياسته الخارجية.
بايدن يعتمد على القيادة من خلال الدبلوماسية، ويعني بها المزيد من التلاحم مع الحلفاء والشركاء الرئيسيين للولايات المتحدة، ولكن اللافت أنه قد اصطدم مؤخراً بشريك أوروبي مهم هو فرنسا على خلفية اتفاقية اتفاقية أمريكية بريطانية لتزويد أستراليا بغواصات نووية، ماأدى إلى إغضاب إلى فرنسا التي كانت لديها عقود مع أستراليا مدتها خمس سنوات لتزويد الأخيرة بغواصات تعمل بوقود غير نووي، حتى أن وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان وصف الاتفاقية بأنها "طعنة في الظهر"، واستدعى سفيري فرنسا من الولايات المتحدة واستراليا. وهذه الواقعة تحديداً تعكس عدم قدرة إدارة الرئيس بايدن على تفادي الأخطاء التي وقع فيها الرئيس السابق ترامب مع الحلفاء الأوروبيين، ماتسبب في تفاقم أزمة تراجع الثقة بين حلفاء الأطلسي لدرجة سحب السفراء بين باريس وواشنطن في واقعة غير مسبوقة أطلسياً.
الشواهد تقول أن الكثير من المراقبيين يشككون في فاعلية الخط الذي تنتهجه الإدارة الأمريكية الحالية، ويتهمونها بالضعف والتراخي في مواجهة التحديات والأزمات التي تمس مصالح الولايات المتحدة، ولكن يبدو أن الرئيس بايدن ينطلق من قناعة راسخة بقدرة الدبلوماسية على توفير الحلول لجميع هذه التحديات ولكن منتقديه يرون في الرهان الحصري على الدبلوماسية نوع من التردد والتباطؤ وعدم القدرة على المزاوجة بين العصا والجزرة في السياسة الخارجية الأمريكية، لاسيما أن هناك أنظمة مارقة مثل ملالي إيران ينظرون إلى دبلوماسية بادين باعتبارها نوع من الضعف بل وانحسار النفوذ الأمريكي عالمياً، مايشجعهم على المزيد من التمادي في انتهاك التزاماتهم المنصوص عليها في الاتفاق النووي الموقع عام 2015.
الخلاصة أن ارتهان الرئيس بايدن لاستخدام القوة بـوضوع الملامح وقابلية الأهداف للتحقيق تعني انتفاء قدرة الردع بشكل كبير لاسيما في ظل التعقيدات التي تحيط بملفات الصراع التي تتداخل فيها القوة الأمريكية، فسيناريو مثل ضرب المنشآت النووية الايرانية لا يندرج بالتبعية ضمن الأهداف القابلة للتحقق بشكل موثوق، نظراً لاعتبارات وعوامل عدة ولكن المعروف أن مجرد التلويح باستخدام القوة العسكرية وخشية نظام الملالي من التعرض لضربة أمريكية قد تطيح به من السلطة كانت تمثل عامل ضغط هائل على قادة النظام، ولكن اسقاط الرئيس بايدن لورقة الردع العسكري بشكل فعلي يفتح الباب واسعاً أمام المزيد من تشدد الملالي وتلاعبهم بالقانون الدولي، وهذا الأمر يمكن أن يتكرر في ملفات ومناطق أخرى ما يضعضع ثقة حلفاء الولايات المتحدة في التعهدات الأمريكية الخاصة بحمايتهم ضد أي اعتداءات.
الانسحاب الأمريكي من أفغانستان قد لا يكون مؤشراً حقيقياً على تراجع نفوذ الولايات المتحدة وقوتها العسكرية، ولكن رؤية الرئيس بايدن بشأن الاعتماد المطلق على الدبلوماسية في تحقيق أهداف السياسة الخارجية ونهاية عصر التدخلات الخارجية، هو ما يثير الكثير من التساؤلات حول مستقبل القيادة الأمريكية للنظام العالمي وقدرة واشنطن على الاحتفاظ بمقعدها في ظل التحديات الصعبة التي تواجهها، فهيبة الولايات المتحدة ونفوذها العالمي طيلة العقود والسنوات الماضية اعتمد بشكل أساسي على القدرة على الانتشار عسكرياً وامتلاك القدرة على حماية المصالح الأمريكية والتدخل دفاعاً عنها في أي منطقة من العالم.