في الوقت الذي تراجع فيه ملالي إيران عن تصريحاتهم بشأن العودة الوشيكة للمفاوضات النووية، حثت الولايات المتحدة الرئيس الجديد ابراهيم رئيسي على العودة إلى المفاوضات الرامية لاحياء الاتفاق النووي الموقع عام 2015، وحذر الناطق باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس من أن نافذة الدبلوماسية لن تبقى مفتوحة إلى الأبد، وأن إدارة الرئيس بايدن ترى أن الاتفاق هو مفتاح التوصل إلى وضع قيود دائمة يمكن التحقق منها على البرنامج النووي الايراني، معتبراً أن هذا الأمر يمثل "أولوية عاجلة بالنسبة لنا ونأمل أن يتعامل الايرانيون معها بنفس الدرجة من الاستعجال".
الشواهد جميعها تؤكد أن ملالي إيران عادوا إلى لعبة المماطلة والتسويف وانهاك الجانب الأمريكي، حيث قال وزير الخارجية الايراني الذي كان قد أكد قبل أسبوعين أن العودة للمفاوضات باتت وشيكة، عاد وقال إن طهران ستتخذ قرار عودتها لمفاوضات الاتفاق النووي وفق السلوك العملي للأمريكيين، وليس على أساس رسائلهم المتناقضة التي يبعثونها لإيران.
في تفسيره للتراجع عن تصريح عودة بلاده "القريبة جدا" للمفاوضات النووية، قال عبد اللهيان أن هناك فرقا بين تفسير طهران لكلمة "قريباً" وتفسير الغرب، وأضاف "في اللقاءات التي أجريناها كان يصر البعض على تحديد موعد وكانوا يتساءلون ماذا تعني -قريباً- كم يوماً، كم أسبوعاً، كم شهراً نقصد عندما نقول –قريباً"، وتابع:" قريبا تعني بمجرد انتهائنا من دراسة ملف المفاوضات وجولاتها السابقة، سوف نستأنفها"، وهذه مراوغات تقليدية يعرفها كل متابع للدبلوماسية الايرانية، وما يؤكد أن هناك رغبة ايرانية للانتقام من العواصم الغربية من خلال هذا التلاعب المتعمد أن عبد اللهيان نفسه قد ذكّر الأوروبيين في تصريحاته ب: "آلية "اينستكس" للتبادل المالي الذي كانوا يعدوننا بتنفيذها قريباً"، واكتفى بالاشارة إلى أن هناك إرادة للعودة إلى ماوصفه بـ "مفاوضات جادة"! ما يعني أن الملالي يريدون رد الصاع صاعين للعواصم الغربية، التي طالما وقفت في وجه إدارة الرئيس السابق ترامب حينما كان يسعى لتعزيز العقوبات ضد الملالي، وذلك رغم يقين الايرانيين بأن تطبيق آلية "اينستكس" لم يتأخر لموقف سياسي أوروبي، بل لأنه كان سيجلب خسائر كبيرة للشركات الأوروبية بسبب وقوعها تحت طائلة العقوبات الأمريكية.
في تحليل هذا الموقف الايراني المراوغ يبدو إلى حد ما تأثير زيارة عبد اللهيان مؤخراً إلى نيويورك (للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة) واضحاً، فطيلة أيام الزيارة الخمسة التي قضاها عبد اللهيان في نيويورك التقى ـ بحسب كلامه ـ حوالي 50 شخصية سياسية، وكان له لقاءات مع وسائل الإعلام ومراكز فكرية ودراسات وأساتذة جامعة أمريكية، حيث ناقش في اجتماعات وصفها بالمغلقة مع مراكز الفكر والدراسات وخبراء العلاقات الدولية بالولايات المتحدة ما وصفه بـ"سلوك الأمريكيين"، وقال عبد اللهيان تعليقاً على ذلك "لقد أكدنا أن السياسة الخارجية الإيرانية تسودها الصلابة والحكمة والمنطق، بينما يسود التسرع واللامنطق سلوك متخذي القرار الأمريكي حيث أن دول العالم تلاحظ أوضاع أفغانستان اليوم جانبا من سياسات الأمريكيين الخاطئة والعقيمة هذه"، ويبدو أن عبد اللهيان قد استشف من هذه اللقاءات أن هناك هامش مناورة يمكن للملالي التحرك فيه على أمل نقل الرسائل التي بعثها بها في لقاءاته لدوائر صنع القرار في البيت الأبيض.
حاول عبد اللهيان أيضاً توظيف أجواء الغضب التي رافقت الانسحاب الأمريكي من افغانستان متهماً الإدارة الأمريكية بالتخبط والفشل، وإرسال رسائل متناقضة للجانب الايراني عبر القنوات الاعلامية أو الدبلوماسية، وهذا الأمر ليس حقيقياً لسبب بسيط هو أن هناك وسطاء رسميون كثر بين طهران وواشنطن بما يتيح للأولى التأكد من أي معلومات أو مواقف أمريكية بشكل قاطع، وبالتالي ليس منطقياً القول بان السبب في تباطؤ الملالي هو تناقض الرسائل الأمريكية، وهذا ليس دفاعاً عن الموقف الأمريكي بل هو تفنيد لما يقوله الملالي، وهذا لا ينفي بالقطع أن السياسات الأمريكية تجاه إيران تتسم بالضعف والترهل، لأن البيت الأبيض لم يبلور ـ حتى الآن ـ بدائل استراتيجية واضحة حول كيفية التعامل مع المراوغات الايرانية المستمرة؛ فلا توجد خطة أمريكية بديلة للتعامل مع الملالي في حال فشل المفاوضات سوى استمرار سياسة العقوبات التي انتهجتها إدارة الرئيس السابق ترامب! ولا توجد خطة أمريكية كذلك في حال نشوب صراع عسكري مفاجىء بين إيران واسرائيل، الحليف التقليدي القوي للولايات المتحدة، وهل تتدخل الولايات المتحدة بشكل مباشر لحماية شعب اسرائيل من هجوم أذرع ايران الطائفية المجاورة لإسرائيل، أم تكتفي بتقديم دعم عسكري للجيش الاسرائيلي؟!
الحقيقة أن فقدان إدارة الرئيس بايدن للقدرة على التلويح بالعصا في وجه الملالي بعد إعلان البيت الأبيض نهاية عصر التدخلات العسكرية الأمريكية في الخارج، قد أفقد الولايات المتحدة قدرتها على إدارة الأزمات بما يحقق المصالح الاستراتيجية الأمريكية، وعواقب هذا الأمر لا تقتصر على تمرد الملالي وتلاعبهم بما تبقى من هيبة الولايات المتحدة ونفوذها، بل يطال فقدان الثقة تدريجياً في قدرة واشنطن على حماية مصالحها ناهيك عن حلفائها وأصدقائها.