عادت قاضيات أفغانستان للاختباء والتخفي هرباً من عناصر "طالبان"، وعادت الجثث تعلق على أعمدة الانارة في البلاد وعاد الخوف والرعب يسكن ربوع أفغانستان، وعادت محال الحلاقة لرفض تشذيب اللحى، وعاد الطلاب إلى مقاعد الدراسة من دون الفتيات!
منذ سيطرة حركة "طالبان" على السلطة في أفغانستان، تتوالى التقارير والأنباء حول الممارسات السلبية للحركة بشكل يعكس عدم حدوث تحولات جوهرية في قناعاتها الأيديولوجية ورؤيتها في الحكم والسياسة، فالحركة لا تزال تلاحق معارضيها، وتصدر الأوامر والتعليمات بنفس المحتوى والأطر التي كانت تجعل من فترة حكمها السابقة (1996ـ2001) بمنزلة سجن كبير لمعظم الشعب الأفغاني. وقد لفت انتباهي من بين كل التقارير الاعلامية التي تشير إلى هذه الممارسات السلبية تقرير نشرته شبكة "بي بي سي" حول اختباء أكثر من 220 قاضية أفغانية خوفاً من انتقام "طالبان"، لدرجة أن الشبكة تحدثت إلى ست قاضيات منهن وذكرت أنهن تحدثن من أماكن سرية على امتداد أفغانستان! وذكرت التقارير أن عناصر الحركة بحثوا عنهن في منازلهن، ماجعلهن يتخفين ويتنقلن باستمرار بعيداً عن أماكن اقامتهن.
رسمياً ينفي المتحدث باسم الحركة كل هذه الممارسات، ويقول أنه يجب ألا تتعرض القاضيات للتهديد وأنه يجب التحقيق في أي شكاوى تشير إلى انتهاك حقوقهن، ولكن كل ذلك يأتي في إطار "وجوب" يبحث عمن ينفذه، وفي إطار محاولة الحركة انكار مايحدث على أرض الواقع ومحاولة تقديم صورة مغايرة للعالم!
والحقيقة أن مسألة تغيير سلوك حركة "طالبان" وقناعاتها الفكرية والأيديولوجية والسياسية مسألة محفوفة بالشكوك لسبب رئيسي، هو أن شرعية الحركة في عيون مؤيديها وأنصارها مكتسبة بشكل كامل من هذه القناعات والأفكار، وبالتالي لو أن قادة الحركة حاولوا إجراء أي تغييرات ولو شكلية على سلوكها في الحكم والسياسة سيجدون انفسهم في مواجهة مباشرة مع أنصارهم، وهذا يعني فقدان الأرضية القبائلية والدينية التي تتكىء عليها الحركة، فضلاً عن انحسار التعاطف معها لدرجة تضعف موقفها تماماً في مواجهة خصومها في الداخل والخارج، ناهيك عن صعوبة اقتناع الحرس القديم من قيادات الحركة بالتخلي عن الأفكار والتفسيرات المتشددة لأحكام الشريعة الاسلامية، التي انطلقت منها الحركة منذ تأسيسها. وبالتالي فإن محاولة اجراء أي تغيير حقيقية في منهجية الحكم والسياسة تهدد الحركة بالانقسام والصراعات الداخلية ناهيك عن فقدان الشرعية والشعبية في مناطق نفوذها الأساسية.
واعتقد أن الرهان على امكانية حدوث تغيير جذري أو نسبي في سلوك حركة "طالبان" وقناعاتها يبدو محفوفاً بالمخاطر، فطالبان لم تتحول إلى حزب سياسي كي يمكن القول بأنها تراجع أفكارها، بل هي حركة دينية صرفة وتتصرف على هذا الأساس، وتريد من المجتمع الدولي أن يقبل بتصرفاتها لمجرد أنها تعهدت بعدم ايواء عناصر ارهابية على الأراضي التي تسيطر عليها، ولكن كل الشواهد تقول أنها تستنسخ نفسها مجدداً، وأن كل ما تعملته خلال العقدين الماضيين هو فنون التسويق والعلاقات العامة، التي تبدو شبيهة بما يفعله النظام الايراني، حيث الخطاب السياسي في اتجاه والممارسات على أرض الواقع في اتجاه مغاير تماماً.
يدرك قادة طالبان أن مصيرهم السياسي مرهون بالتمسك بالثوابت التي تأسست عليها الحركة وانتشرت واكتسبت دعم عناصرها وتأييدهم، وبالتالي فإن أي حديث عن تغيير حقيقي في السلوك والقناعات لابد وأن يرافقه ترجمة على أرض الواقع وليس مجرد وعود وتعهدات، فالواقع الأفغاني الصعب والمعقد ليس بالسهولة التي يتخيلها البعض، والحيلولة دون تحول أفغانستان لنقطة انطلاق لتنظيمات الارهاب مجدداً، تتطلب تعاوناً دولياً جاداً لتشجيع الحركة على تبني تغييرات حقيقية تضمن القبول بها دولياً.
دورنا كمراقبين، ليس في إدانة هذا الطرف أو ذاك، بل محاولة فهم مايحدث في إطار موضوعي، لذا فإننا نعتقد أن حركة طالبان لا تزال بعيدة عن مواقفها وسياساتها المعلنة لاسيما بخصوص المرأة وتعليم وعمل المرأة، والمؤشرات في هذا الشأن لا تبشر بتفاؤل كثير.