في استطلاع للرأي أجرته دورية «ناشيونال إنترست» الأمريكية، توقّع معظم الخبراء والمتخصصين نشوب حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين، وأن المواجهة بين القوتين ترتبط بالصراع القطبي للسيطرة على النظام العالمي؛ وهذه التوقعات نابعة بالأساس من المواقف والمواجهات السياسية والحروب التجارية والتكنولوجية القائمة بين الدولتين، الأمر الذي يثير تساؤلات عديدة حول احتمالية حدوث هذا السيناريو من جهة، وتأثيره المتوقع على بقية دول العالم من جهة ثانية.
وفي مناقشة الأمر يمكن القول إن المسألة لا تتوقف على توقعات الخبراء والمحللين، بل إن محاولة تفسير سياسات الكثير من دول العالم في الآونة الأخيرة تكشف عن اعتقاد عالمي يتنامى بأن هناك مواجهة ستقع بين الصين والولايات المتحدة، وأن شكل هذه المواجهة وسيناريوهاتها يتوقف على التطور الحاصل في نقاط الخلاف والصراع بين القوتين، لاسيما في الجوانب الاقتصادية والتجارية، التي تتمحور حولها أسباب القلق الاستراتيجي الأمريكي المتزايد من الصعود الصيني.
المؤكد في هذه المسألة أن الصدام العسكري الخشن يبدو سيناريو مستبعد على الأقل من الجانب الصيني، الذي لا يريد أي عرقلة لمسيرة صعوده التنموي المتلاحق، فضلاً عن أن الصين تمتلك رؤية إستراتيجية مغايرة للفكرة التقليدية السائدة عالمياً حول الهيمنة والنفوذ على النظام العالمي، فالصين لا تريد قيادة تقليدية لهذا النظام، بل تسعى إلى ترسيخ قوتها وإمبراطوريتها الاقتصادية بحيث تصبح هذه القيادة أمراً واقعاً بعيداً عن توازنات القوى العسكرية التي تصب في مصلحة الولايات المتحدة، وتحتاج الصين لجهود كبيرة وسنوات طويلة من أجل جسر الهوة بين القوتين في هذا المجال، ولهذا فإن بكين ربما ترى أن صعودها الحتمي وتربعها على قمة النظام الاقتصادي العالمي قد يكون بديلاً لامتلاك قوة عسكرية مهيمنة كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة في العقود الأخيرة.
السؤال هنا: هل يمكن لقوة اقتصادية وتكنولوجية، مهما بلغت، أن تسيطر على العالم وتقود النظام العالمي متفوّقة على قوى دولية أخرى ربما تفوقها قوة من الناحية العسكرية، وربما الثقافية والإعلامية وغير ذلك؟ الاعتقاد السائد لديّ أن النموذج الذي تحاول الصين فرضه لم تسبق تجربته تاريخياً، بحكم أن القوة العسكرية كانت دوماً رأس الحربة في صراعات النفوذ والهيمنة بين القوى الكبرى.
سيناريو الحرب الباردة المتوقعة بين الصين والولايات المتحدة سيختلف حتماً عن السيناريو المناظر الذي ساد خلال عقود المنافسة الشرسة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، وهناك اختلافات جوهرية عدة بين الحالتين، فالصين - على سبيل المثال - لا تتخذ من الأيديولوجيا أداة رئيسية للصراع كما كان الحال بالنسبة للاتحاد السوفيتي السابق، وبالتالي فإن الحرب الباردة المتوقعة - إن حدثت - لن تتمحور بأي حال حول الأيديولوجيات والنموذج القيمي والثقافي السائد لدى القوتين، بل ستتركز حول الاقتصاد والتجارة والقيم السياسية بدرجة أقل، علاوة على أن الصين لن تسعى لقيادة عالمية بالمفهوم السائد أمريكياً، بل قد تسعى لتبوأ قمة النظام الاقتصادي العالمي لتحقيق أكبر تأثير إستراتيجي عالمي ومردود اقتصادي ممكن، ولن يقودها ذلك بداهة لمواجهة مع النموذج الرأسمالي، خصوصاً أن عمالقة الاقتصاد الصينيين ينافسون في السوق الأمريكية التي تمثِّل بالنسبة لهم سوقاً بالغة الأهمية والحيوية، وبالتالي لا يعقل أن تسعى الشركات الصينية الضخمة لتدمير نموذج الحياة الأمريكي الذي يمثِّل بالنسبة لها مصدراً للثروة والانتشار عالمياً.
التركيز الآن في الولايات المتحدة يتمحور حول محاولة إجهاض الصعود الصيني المتسارع، ونرى أن هذه المحاولات لا تخرج عن السعي لوأد نظريات تروج لهذا الصعود، وطرح بدائل معاكسة لها تماماً، مثل نهاية الطموح الصيني وغير ذلك استناداً إلى تراجع معدلات النمو القوية التي كانت تحققها الصيني طيلة سنوات وعقود مضت ولكن هؤلاء يتناسون أن النمو الصيني الذي بلغ نحو 2 % فقط عام 2020 بسبب جائحة «كورونا» قد تحقق في وقت تدنت فيه معدلات النمو في الاقتصادات الصناعية الغربية لدرجات قياسية للغاية، وذلك بهدف دحض الاعتقاد العالمي بصعود الصين الحتمي، والذي تحول في السنوات الأخيرة إلى حقيقية بديهية، ولاسيما بعد تداعيات تفشي جائحة «كورونا» والانسحاب الأمريكي من أفغانستان. وتستند معظم النظريات الغربية المضادة للصعود الصيني إلى افتقار السياسة الخارجية الصينية للمبادرة وتجنب المجازفة في التعامل مع الأزمات والقضايا الدولية، فضلاً عن قلق الصين ذاتها من مشاكلها الداخلية وحساسيتها المفرطة إزاء مناقشة هذه المشاكل مع الغرب، واعتقد - شخصياً - أن وجهات النظر هذه قد تبدو صحيحة ولكنها لا تقف عائقاً أمام الصعود الصيني، لاسيما إذا عملت بكين على معالجة أوجه القصور التي يحاول الغرب الضغط عليها والتخلص من أي حساسيات في هذه الشأن.
الأكثر ترجيحاً - من وجهة نظري - أن ينقسم العالم تدريجياً إلى كتلتين إحداهما تقودها الولايات المتحدة والأخرى بقيادة صينية، فهناك ثقافتين مختلفتين تماماً ما يجعل من الصعب على الغرب الخضوع لهيمنة الصين، والمؤكد أن الصين تمضي على درب تشكيل عالمها الخاص بمحاولة التصدي للحروب التجارية الأمريكية من خلال تعزيز الطلب الداخلي وعقد اتفاقات التجارة الحرة في محيطها الإقليمي وبالأخص مع عمالقة شرق آسيا اليابان وكوريا الجنوبية، وهما اقتصادان كبيران حليفان للولايات المتحدة، فضلاً عن ترقب العوائد الضخمة المرتقبة لمشروعها الإستراتيجي الضخم الخاص بطريق الحرير الجديد الذي يدمج اقتصادات الكثير من دول العالم مع الاقتصاد الصيني بشكل وثيق.
بالمقابل، فإن الحديث عن تخلي الولايات المتحدة عن قيادة العالم في المستقبل المنظور يبدو محفوفاً بالشكوك في ظل هيمنتها المطلقة على عمالقة التكنولوجيا وتفوقها في مجالات حيوية عدة مثل الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات والإنترنت وغيرها، ناهيك عن سيادة نموذجها الثقافي والقيمي والإعلامي الذي لا يزال بعيداً عن الصدام مع نموذج عالمي بديل.