يجمع المسؤولون والخبراء والمتخصصون على أن ماتحقق في مؤتمر "كوب 28" يمثل إنجازاً نوعياً واختراقاً تاريخياً في ملف التغير المناخي، والمسألة هنا لا تتعلق فقط بتوافق نحو مائتي دولة على صيغة بشأن الوقود الأحفوري، ولكن لأن الصيغة النهائية المتعلقة بهذه النقطة قد حظيت بدعم طرفين مهمين إحداهما الدول المنتجة للنفط وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، والتي ترى أن وقف إنتاج الوقود التقليدي يمثل "حكماً بالإعدام" على القطاع النفطي، بالغ الحيوية ليس للدول المنتجة ولكن أيضاً للدول المستهلكة، التي لم تستعد بعد بشكل كامل لحقبة ما بعد النفط، وقد أظهرت أزمة أوكرانيا عمق حاجة العالم، وبالأخص الدول الصناعية المتقدمة لموارد الطاقة التقليدية، وعدم جاهزيتها بعد لصدور تعهدات تطوي صفحة موارد الطاقة التقليدية بشكل نهائي، ومن دون جاهزية البدائل الطاقية كل تحل محل الوقود الأحفوري بشكل كامل.
الطرف الثاني في النقاشات المعمقة التي دارت في الأيام الأخيرة لـ "كوب 28" هو الدول الغربية التي تطالب بتعهدات للتخلص التدريجي من استخدام النفط والغاز والفحم، وهو المطلب الذي تتناقض فيه الأصوات الداعية مع اعتمادها الكبير واستثماراتها المتزايدة في مجال الطاقة التقليدية لتلبية الاحتياجات المتزايدة منها!
النقاش بين الطرفين استغرق عقوداً وسنوات طويلة حتى توصل الطرفان إلى طريق ثالث في قمة الأطراف التي عقدت في دبي خلال النصف الأول من ديسمبر الجاري، وحظيت الصيغة التوافقية بموافقة وترحيب سعودي، كونها توفر خيارات وبدائل لكل دولة لتتبع مسارها الخاص نحو التحول الطاقي بعيداً عن الصيغ الجماعية الملزمة، التي قد لا تناسب ظروف وأولويات واحتياجات التنمية في بعض الدول.
هذه الصيغة تعني وجود تفاهم مشترك حول المبدأ مع احتفاظ كل دولة بحرية اختيار مسارها للتوجه نحو الطاقة البديلة، وهو ما أكده الأمير عبد العزيز بن سلمان وزير الطاقة السعودي بقوله في تصريح صحفي إنه "تمت مراجعة نص البيان الختامي لـ (كوب 28) كلمة بكلمة" مشيراً إلى أن الاتفاق لم ينص على التخلص الفوري او المتدرج من الوقود الأحفوري بل "عملية تحول".
الشواهد تقول إن المملكة العربية السعودية قد أسهمت في إثراء النقاشات وتوصيلها إلى بر الأمان من خلال منهجية تعتمد على تكامل نصوص الاتفاق النهائي لـ"كوب 28"، والموائمة بين التوجه العالمي وحق كل دولة في العمل وفق أسلوب يناسب ظروفها وأولوياتها في تحقيق التنمية المستدامة، وهو ما يرسي بالفعل معايير جديدة للعمل المناخي، الذي واجه عراقيل كثيرة بسبب الحاجة إلى معالجات مبتكرة لبعض النقاط التي تتعارض فيها المصالح، وهو ماتحقق في القمة الأخيرة، حيث مثّل مفهوم "التحول" (عن استخدام الوقود الأحفوري في انظمة الطاقة ابتداء من العقد الحالي بطريقة عادلة ومنظمة ومنصفة) كبديل عن الصيغ الأخرى حلاً منطقياً للعقدة النقاشية، في إطار خطة عمل متوازنة تدفع باتجاه تحقيق هدف 1.5 درجة مئوية، والحد من الانبعاثات لتكتمل منظومة النجاحات التي تحققت بمعالجة الثغرات الموجودة في ملف التكيف المناخي، وتطوير آليات التمويل المناخي ومنحها دفعة قوية، والتوافق حول معالجة الخسائر والأضرار.
بلاشك أن فكرة الاستغناء عن الوقود الأحفوري بشكل إلزامي وضمن برنامج زمني إلزامي تبدو بعيدة عن الواقعية، وتلبي طموحات الداعين لها من دون أن تحمل امكانية أو فرص للتنفيذ على أرض الواقع، وهو ما يفسر دعوة روسيا العالم إلى تجنب التخلي عن الوقود الأحفوري "بشكل فوضوي" ومن دون دعم العلم. ولاشك أن انجاز هذا التوافق في أحد أبرز الملفات التي تثير خلافاً دولياً منذ أكثر من ثلاثة عقود يعد نجاحاً للجميع، حيث انطلقت بالفعل إشارة بدء عصر مابعد الوقود الأحفوري، وحيث يعد اتفاق مفاوضي نحو مائتي دولة على مبدأ التحول الطاقي للمرة الأولى إنجازاً دولياً مهماً للغاية، ويعكس إجماعاً دولياً على أن مستقبل البشرية يكمن في الطاقة النظيفة، وهي مسألة استبقتها المملكة العربية السعودية واستعدت لها بخطط واستراتيجيات استباقية بدأ تنفيذها بالفعل، وهو ما أكده الأمير عبد العزيز بن سلمان بقوله "لسنا غريبين عن منهجية تحول الطاقة ونحن رائدون فيها"، حيث أطلقت المملكة 13 مشروعاً للطاقة المتجددة باستثمارات تقدر بنحو 9 مليارات دولار، وتعهدت بأن تصل إلى صافي انبعاثات كربونية بحلول عام 2060، كما احتلت المملكة المرتبة 57 في مؤشر التحول الطاقي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2023، متقدمة 23 مركزاً مقارنة بعام 2021، الذي احتلت فيه المرتبة 81 عالمياً.
التحول الطاقي هو بالفعل المسار الواقعي الذي تدعمه المملكة العربية السعودية وبقية منتجي ومصدري النفط، وهو المخرج الأمثل من معضلة التباين بين متطلبات العمل المناخي من ناحية والاعتماد الاقتصادي على الوقود الأحفوري من ناحية، والمفارقة هنا أن الشركات التي تمتلك أكبر خطط للتوسع في الوقود الأحفوري هي بالأساس أمريكية وأوروبية، ولذلك فإن التفاهم على صيغة التحول الطاقي في "كوب 28" يمثل طوق إنقاذ للعمل المناخي، الذي كان بحاجة إلى تفاهم يوائم بين الاقتصاد والوقود الأحفوري، حيث فشلت جميع المحاولات السابقة للوصول إلى هذه النقطة، ما يفسر وصف الخبراء والمتخصصين للاتفاق بأنه الأهم منذ اتفاق باريس عام 2015.