لاشك أن ما يحدث في غزة منذ السابع من أكتوبر الجاري هو أحد تداعيات الحسابات الخاطئة لقادة حركة "حماس" الإرهابية في الخارج، حيث اعتاد هؤلاء المرتزقة قتال الفنادق وشاشات التلفاز، ولم يدر بخلدهم أن اعتماد مخطط واسع للهجوم على إسرائيل يمكن أن يتسبب في كارثة كبيرة قد لا تتوقف عند حدود غزة، ودعك من تصريحات هنية وغيره ممن قالوا أنهم بصدد تغيير خارطة الشرق الأوسط وغير ذلك من هراء.
خطة "حماس" كشفها من دون قصد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة في تصريحاته لـ"العربية" مؤخراً حيث قال نصاً ""لدينا أسرى من الجنود الإسرائيليين ما يكفي للتفاوض على معتقلينا "، مشيراً بالقول: "معنيون فقط بالأسرى العسكريين الإسرائيليين، وسنقايض الأسرى الإسرائيليين لدينا بكل أسرانا لدى إسرائيل"، ولم يأت مشعل على ذكر تحرير أرض ولا تسوية قضية ولا غير ذلك، فكل ما يهمه هو وغيره من قادة التنظيمات هو تحرير رفاقهم من سجون إسرائيل!
وصف مشعل إن الهجوم على إسرائيل بالمغامرة المدروسة، مضيفا بالقول: "نعرف جيدا تبعات عمليتنا يوم 7 أكتوبر"، وتحليل مواقف "حماس" منذ بدء الهجوم وحتى الآن يشير بدقة شديدة إلى أن الهجوم لم يخضع لأي دراسة أو تقدير موقف استراتيجي أو حتى استشارة عقلاء ممن تثق فيهم الحركة سواء من الفلسطينيين أو غيرهم، فالارتباك الذي أصاب الحركة واختفاء عناصرها وكل هذه الدماء التي سالت بسبب الرد الإسرائيلي المتوقع على الهجوم، يشير إلى أن "حماس" لم تعد العدة لما بعد الهجوم.
يقول مشعل إن "التاريخ لا يُصنع بالخطوات المحدودة الخجولة المترددة، بل بالمغامرات المدروسة" ونقول له نعم صنعت تاريخاً جديداً للضحايا من الفلسطينيين وتدمير غزة، نعم قتلت الكثيرين من الإسرائيليين ولكن الشعب الفلسطيني دفع ثمناً غالياً لما وصفته بالمغامرات المدروسة التي لا يمكن أن نهجاً للحصول على الحقوق وتحرير الأرض، وفوق ذلك كله لا ندري أي دراسة قامت بها "حماس" في هجومها ضد إسرائيل، فلا دراسة ولا استعداد ولا سيناريو مجهز للتعامل مع المعاناة الانسانية المتوقعة التي تفوق الطاقات المتاحة على الأرض، والشواهد جميعها تقول إن ماحدث هو مغامرة مدفوعة ولكنها بعيدة كل البعد عن أن تكون مدروسة، وأن هدفها الأساسي هو مبادلة الأسرى والمقايضة على المعتقلين وليس هناك أي هدف يتعلق بالأقصى ولا الأراضي الفلسطينية التي يزعم الكثيرون الدفاع عنها من الغرف المكيفة تاركين الأبرياء يعانون وسط أبشع صور الزيف والخداع والمتاجرة بالقضية.
في تحليل ما يحدث نجد أنفسنا ـ كمراقبين ـ أمام سيناريوهات وتساؤلات محددة أولها أن حركة "حماس" الارهابية قد فوجئت بنجاح الهجوم بشكل فاق توقعاتها، وأحدث خسائر بشرية كبيرة في الجانب الإسرائيلي، وهو ما ما لم تكن الحركة تتحسب له وبالتالي لم تتحسب لرد إسرائيلي بهذا المستوى من العنف والغضب. ثاني هذه السيناريوهات أن الحركة قد نفذت الهجوم بموجب اتفاق مع رعاة إقليميين على أن يتدخل هؤلاء الرعاة ووكلائهم وأذرعهم الميلشياوية لتخفيف الضغط الإسرائيلي على قطاع غزة، وتشتيت انتباه الجيش الإسرائيلي بين الشمال والجنوب ومن ثم تدخل المجتمع الدولي والدول الاقليمية ككل مرة بما يضطر الجانب الإسرائيلي لوقف العمليات العسكرية وبدء عملية مبادلة الأسرى والرهائن.
ثالث هذه السيناريوهات أن قادة "حماس" قد أمروا بتنفيذ الهجوم الدموي من دون إعداد سيناريوهات لإدارة المشهد في مرحلة مابعد الهجوم، وتداعياته السياسية والأمنية والاستراتيجية ليس على الفلسطينيين فقط ولكن على الأطراف الاقليمية جميعها، بمعنى أن الغرض قد اقتصر على كيفية إطلاق كوادر الحركة المعتقلين لدى إسرائيل من دون بلورة فهم كامل للمشهد الصراعي في مررحلة مابعد الهجوم.
أغلب الظن أن مشعل ورفاقه قاموا بإصدار أوامر تنفيذ الهجوم من دون دراسة كافية لتداعياته بعد أن تلقوا تطمينات إيرانية بالتحديد بشأن تدخل "حزب الله" وإيران لانقاد الحركة في حال تعرضت لخطر داهم من الجيش الإسرائيلي، وما ساعد على ذلك أن إسرائيل لم تكن في أحسن حالتها وظروفها الداخلية وتعيش حالة غير مسبوقة من الانقسامات والاضطرابات الحزبية والسياسية، ولكن لم يدر بخلد الطرفين معاً أنهما قدما هدية مجانية للحكومة الإسرائيلية لصرف الأنظار عن مشاكل وصراعات الداخل، وإحياء مخطط تهجير الفلسطينيين إلى خارج غزة، وإعادة السيطرة على القطاع بأكمله.
بلاشك أنه ليس لقيادي في حركة ميلشياوية، بغض النظر عن عدالة القضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، أن يقيم الموقف العربي الرسمي أو يطلب المزيد من الدعم السياسي أو غير ذلك، وله أن يدرك أن مواقف الدول وحساباتها تختلف عن مواقف التنظيمات والميلشيات وحساباتها، وأن الدول لا يمكنها الاختباء وراء الشعوب، أو أن يختفي قادتها في الأنفاق كالجرذان، أو يعيشوا في عواصم دول أخرى، فهؤلاء القادة بالأخيرة مسؤولون عن أمن شعوبهم ومصالح دولهم، وليس لهم المجازفة بكل شىء والانجرار وراء خطط وتدابير تحاك من جانب تنظيم أو رعاته ومموليه.
نقولها بصراحة تامة، فلا وقت ولا مجال للشعارات والمزايدات، لا يمكن أن يترك المجال لـ"حماس" وإيران و"الجهاد" لجر المنطقة العربية إلى الحروب والتدمير والمزيد من الفوضى والاضطرابات، وليس من العقل المجازفة بمصير أكثر من مائتي مليون عربي كثمن للانجرار وراء مخطط ميلشياوي. نعم لا يمكن لأي انسان القبول بما يحدث لنحو مليوني فلسطيني في غزة، ولكن تخليص هؤلاء من براثن هذه الدوامة من العنف وسفك الدماء لن يتحقق بتوسيع ساحة الصراع لتشمل دول الطوق وتحميل المزيد من الأبرياء مسؤولية مثل هذه المواقف اللامسؤولة.
يعترف مشعل في حديثه بأن "حزب الله" وإيران قدموا سلاحاً ودعماً للحركة، ويطلب المزيد منهم، ولكنه لم يتحدث عن موقف إيران مما يتعرض له الفلسطينيون في غزة سوى بالتهديد والوعيد الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.