بات موضوع التململ الغربي من دعم أوكرانيا في الحرب مع روسيا مثل كرة الثلج التي تتضخم تدريجياً، حيث وجه وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي تحذيراً لافتاً إلى روسيا بشأن عدم الرهان على "الارهاق" في أوروبا إزاء الدعم الموجه لأوكرانيا، وكان أبرز مالفت الانتباه هو اجتماع الوزراء الأوربيين في كييف، للمرة الأولى التي يعقد فيها الاجتماع خارج التكتل الأوروبي، ووصف مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب برويل الحرب في أوكرانيا بأنها "تهديد وجودي" لدول الاتحاد الأوروبي تحديداً، ووجه حديثه للجانب الأوكراني قائلاً : "لهذا السبب (التهديد) علينا أن نستمر في دعمكم والحديث مع حلفائها وأصدقائنا الأمريكيين كي يواصلوا دعمكم".
على الصعيد الرقمي لا يوجد تغيير نوعي في مستوى الدعم الأوروبي لأوكرانيا، حيث أعلن الاتحاد الأوروبي مؤخراً عن تقديم أكثر من 70 مليار يورو على شكل مساعدات عسكرية ومدنية لأوكرانيا، وهي مساعدات تقرر أن تصل خلال السنوات القليلة المقبلة، وقالت وزير الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا "إنه رسالة إلى روسيا مفادها بأنه يتعين عليها عدم الاعتماد على إرهاقنا سنكون هناك لفترة طويلة قادمة". وتأتي أهمية هذه المساندة الأوروبية من كونها جاءت عقب استبعاد الموازنة الأمريكية التي تم اقرارها بصعوبة شديدة، مساعدات عسكرية لأوكرانيا بقيمة 6 مليارات دولار، لكن الرئيس بايدن قال إن بوسع كييف مواصلة الاعتماد على الدعم الأمريكي.
فكرة الارهاق الغربي وردت أولاً على لسان مسؤولي الكرملين الذين أعربوا عن اعتقادهم بأن الارهاق من الصراع العسكرية سيتزايد في أوروبا والولايات المتحدة، وأن الأخيرة ستواصل الانخراط المباشر في الأزمة، وهذا مايفسر جزئياً الرسالة الحاسمة التي حرص وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي على إرسالها من كييف.
الشواهد تقول أن مسألة الاصطفاف الغربي لم تعد مؤكدة كما كانت في بدايات الحرب، إذ لا يمكن تجاهل موقف الجمهوريين المتشددين في الولايات المتحدة ومعارضتهم القوية لموقف إدارة بايدن من الحرب، كما يجب الانتباه إلى فوز المرشح الموالي لروسيا في الانتخابات البرلمانية التي جرت مؤخراً في سلوفاكيا، حيث يتوقع بأن يبدأ روبرت فيكو، وهو رئيس وزراء سابق، مشاوراته الائتلافية لتشكيل الحكومة المقبلة في البلاد، حيث سبق له التعهد صراحة بوقف الدعم العسكري السلوفاكي لأوكرانيا. نتائج هذه الانتخابات لا تقتصر على سلوفاكيا بل يعتقد أن تأثيرها سيمتد إلى بولندا حيث تحتدم المنافسة الانتخابية وتتمحور حول دعم أوكرانيا أيضاً، مايجعل فكرة استمرار الوحدة الأوروبية إزاء أزمة أوكرانيا محفوفة بالشكوك رغم الدعم البريطاني القوي غير المسبوق الذي تلقته أوكرانيا بنقل برنامج تدريب رسمي تقوده بريطانيا "بريتيش أوبرايشن إنترفليكس"، إلى داخل أوكرانيا بدلاً من القواعد العسكرية التابعة لبعض دول حلف "الناتو".
في ضوء ماسبق، وبعيداً عن الردود الأوروبية الرسمية، هل يمكن القطع بفاعلية الرهان الروسي على الإرهاق الغربي؟ الجواب هنا ينطلق من وجود حالة تململ لا يمكن انكارها في صفوف الدول الأوروبية، والحالة السلوفاكية مرشحة لأن تنتشر أو على الأقل تؤثر في مواقف بقية أعضاء الاتحاد الأوروبي، لذا وصفت صحيفة "بوليتيكو" انتصار الحزب الاشتراكي الاجتماعي الديمقراطي السلوفاكي بقيادة روبرت فيكو بأنه خطر يعم أنحاء أوروبا، باعتباره مؤشر على تآكل الدعم الغربي لأوكرانيا، وهو أمر قد يتزايد في ظل جمود الوضع العسكري رغم استنزاف مخزونات الدول الغربية من الأسلحة والذخائر. ورغم أن الحكومة الائتلافية التي سيشكلها فيكو قد تتجه صوب نهج براجماتي حيال أوكرانيا، فإن ذلك قد يعد أيضاً تحولاً مهماً في المواقف لأن سلوفاكيا كانت ثاني دولة تقدم طائرات مقاتلة لأوكرانيا بعد بولندا، وهو مايفاقم الضغوط على الرئيس الأوكراني لضمان استمرار الدعم، وكذلك على العواصم الغربية الأخرى للحفاظ على معدلات التأييد الشعبي لمواقفها في أوكرانيا في ظل تنامي جبهة المعارضة أو على الأقل جبهة الحياد إزاء حرب أوكرانيا والتي باتت تضم المجر وصربيا وبولندا وسلوفاكيا، ما يضعف من دون شك تماسك الاتحاد الأوروبي في مواجهة روسيا، وهو أمر قابل للتزايد في ظل وجود انتخابات برلمانية في العديد من الدول خلال العام المقبل، وتاثير "الدومينوز" الانتخابي هنا قابل للتكرار في هذه الدول، ما سيؤثر حتماً على مواقف الحكومات الحالية، حيث يخشى القادة السياسيين من توجهات الناخبين وتأثرهم المتنامي بما يتردد عن تأثر الاقتصادات الأوروبية بالحرب بدرجة تفوق تأثر الاقتصاد الروسي.
التطورات السابقة دفعت وزير الخارجية الايطالي انطونيو تاياني إلى وصف الخطط المحتملة للحكومة السلوفاكية الجديدة بأنها ليست بالإشارة الإيجابية، مشيراً إلى انقسام أوروبي محتمل بشأن أوكرانيا وقال "دعونا نرى ما سيفعله فيكو فعلياً إلى جانب التصريحات، لأن الحكومة لم تتسلم مهامها بعد"، وأضاف أن النزاع في أوكرانيا وصل إلى مرحلة "بات فيها من الضروري إيجاد طريق للسلام".
الخلاصة أن التوجه الغربي في مجمله يتماهى مع توقعات الرئيس بوتين ورهانه على وصول الغرب إلى حالة انقسام بشأن دعم أوكرانيا، وأن الوقت كفيل بانهاء حالة التوحد في ظل تفاقم الضغوط الاقتصادية وتأثير العامل الانتخابي على الساسة والأحزاب الأوروبية، وهو أمر مرشح للتزايد مع اقتراب فصل الشتاء وازدياد حاجة أوكرانيا للأسلحة. ولكن هل يجازف الغرب بالتضحية بكل هذه المليارات التي قدمها لأوكرانيا ناهيك عن التداعيات الاستراتيجية المحتملة لهزيمتها عسكرياً على الأمن والاستقرار وتوازنات القوى مع روسيا؟ الإجابة على الأرجح أن هناك احتمالية عالية لحدوث شرخ في الصف الأوروبي، ولكن بالمقابل قد لايكون هناك خيار استراتيجي بديل امام الولايات المتحدة سوى مواصلة دعم أوكرانيا بموازاة الدفع باتجاه التسوية السياسية للأزمة، ومع ذلك يبقى موقف الكونجرس بشأن استثناء أوكرانيا من مشروع قانون الانفاق قصير الأجل، مؤشراً مهماً وله دلالته رغم أنه إجراء مؤقت لتجنب الاغلاق الحكومي، خصوصاً أن الضغوط الانتخابية يمكن أن تؤثر بدرجة ما على مواقف الرئيس بايدن الذي تطرق إلى ذكر أوكرانيا في خطابه الأخير امام الجمعية العامة للأمم المتحدة قرب نهاية الخطاب، وهو مايفسر تصريح وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي قال فيه: "نعم، هناك في الكونغرس بعض الأصوات العالية التي تتخذ مساراً مختلفاً، لكن علينا بالطبع أن نحاول باستمرار تركيز اهتمام مواطنينا على المخاطر".