في ظل الشواهد والمؤشرات القوية التي تربط النظام الإيراني بالهجوم الدموي الذي شنته حركة "حماس" الإرهابية ضد إسرائيل، والذي جر على سكان غزة الويلات والموت، فإن تحليل المشهد برمته يشير إلى أن طهران تسعى إلى تفجير الوضع الاقليمي بأكمله لانهاء التوجه المتزايد والمتسارع نحو توقيع اتفاقات سلام بين إسرائيل وجيرانها العرب ودول إسلامية أخرى، أو على أقل التقديرات تجميد هذا المسار وايقاف هذا المسار ولو مرحلياً، بحيث يصبح من الصعب للغاية على أي دولة عربية أن تتخذ قراراً بشأن توقيع إتفاق سلام مع إسرائيل، واعتقد أن رغبة النظام الإيراني في تحقيق هذا الهدف قد تزايدت في ظل تزايد إحتمالات توقيع إتفاق سلام بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، والأمر هنا لا يقتصر على محاولة نسف هذا التوجه فقط، ولكنه يصب في مصلحة تحقيق أهداف أخرى حيوية للغاية، ومنها محاولة انهاء ما تردد بقوة بشأن التفاوض الجاري حول توقيع إتفاق أمني غير مسبوق بين الرياض وواشنطن، وكذلك ما يتعلق حصول المملكة على دعم تقني أمريكي في مجال التكنولوجيا النووية لتوليد الطاقة الكهربائية، وهو ما يصب في خانة إحداث تحول نوعي كبير في دور المملكة العربية السعودية ومكانتها وترسيخ الشراكة السعودية ـ الأمريكية، بكل ما يعنيه ذلك من توابع إستراتيجية طالما سعى النظام الإيراني لانهائها، ولاسيما ما يتعلق بتفكيك علاقات الشراكة الإستراتيجية التقليدية بين واشنطن وحلفائها الخليجيين.
ثمة هدف إستراتيجي إيراني مهم آخر يتمثل في إرباك حسابات الحكومة اليمينية الإسرائيلية وإجبارها على تغيير تفكيرها الاستراتيجي الخاص الذي يتمحور جزء كبير منه حول استهداف المنشآت النووية الإيرانية ومحاولة انهاء طموحات إيران على هذا الصعيد باعتبارها التهديد الأخطر الذي يواجه أمن إسرائيل. وقد تلاقى الطرفان "الحمساوي" والإيراني إذن على محاولة تغيير قواعد اللعبة والمعادلات الأمنية القائمة، حيث تصورت حركة "حماس" الإرهابية أن هناك أيضاً فرصة لحلحلة القضية وإجبار إسرائيل على الجلوس على مائدة التفاوض.
الواقع الآن يقول إن إيران قد نجحت عبر الذراع "الحمساوي" من الاقتراب من تحقيق هدفها، حيث توترت الأجواء إقليمياً وعالمياً بشكل غير مسبوق منذ سنوات بل وعقود، وعاد الحديث عن العداء مع إسرائيل إلى واجهة النقاش العربي والإسلامي، وتراجعت فرص مواصلة مسيرة السلام العربي ـ الإسرائيلي حتى إشعار آخر، وبالتالي فإن النظام الإيراني قد نجح في تحقيق جانباً مهماً من أهدافه، وهذا هو أخطر ما في الموضوع برمته، إذ يمكن أن يقود الإستسلام لفكرة التغيير الإيراني إلى واقع شرق أوسطي تسيطر عليه تنظيمات الارهاب والتطرف التي ترعاها وتمولها إيران، خصماً من رصيد الدولة الوطنية والجهود التي بذلت على مدى سنوات طويلة من أجل تغيير ثقافة العنف وإحلال ثقافة التعايش والتسامح والانفتاح.
المسألة لا تقتصر هنا على الشق الأمني والعسكري وحتى السياسي، بل تطال مصالح الدول والشعوب والاستثمارات والخطط الاقتصادية التي باتت تنفيذها في مواجهة تحدياً يصعب تجاهله، وحيث لا يمكن القبول بأن تتحكم إيران في ممرات ومشروعات التعاون الاقتصادي بين دول المنطقة، أو ترسم مستقبل هذه المنطقة وفق ما يترآى لقادتها ويتماشى مع تصوراتهم الأيديولوجية الطائفية الضيقة، كما لا يمكن القبول بفكرة تحكم الميلشيات الموالية لإيران في مصير المنطقة ودولها، خصوصاً أن نجاح هذا السيناريو الكارثي يعني أن لنا أن نتوقع تكاثراً فطريا لهذه الميلشيات خلال المرحلة المقبلة وهو مانراها يحصل الان فعليا.
لا خيارات أمام دول المنطقة بما فيها إسرائيل لتفادي تداعيات المخطط الإيراني في المنطقة سوى التعاون والتنسيق من أجل تجاوز هذا المأزق، لأن البديل هو نجاح إيران في الوقيعة بين هذه الأطراف جميعها ووضعها في حال صدام كارثي مباشر وحرب، سواء من خلال أفكار مثل إجبار سكان غزة على الانتقال إلى داخل مصر، بكل ما يعنيه ذلك من تأثيرات عميقة على العلاقات الإسرائيلية ـ المصرية، أو تحويل الحدود المصرية الإسرائيلية إلى مفرخة جديدة للإرهاب الذي لن تقتصر تأثيراته على إسرائيل بل يشمل مصر نفسها والأردن وغيرهما، فضلاً عن امكانية تحول هذه المنطقة إلى نقطة جذب جديدة للعناصر الإرهابية وإنعاش أنشطة الارهاب بعد كل الجهد الذي بذلته دول المنطقة والقوى الدولية في مكافحة هذه الآفة.
السؤال الأهم هنا: إذا كان هذا السيناريو الإيراني والمعلومات الداعمة له لاتخفى على إسرائيل والولايات المتحدة رغم محاولات النفي الأمريكية لوجود أي معلومات داعمة له رغم أن واشنطن لا تترك فرصة غالباً إلا وتكيل الاتهامات لإيران سواء وجدت ما يؤيد كلامها من الأدلة أم لا فهل تفلت إيران بجريمتها هذه المرة أيضاً؟ الجواب بالتأكيد مرهون بحسابات إسرائيل والولايات المتحدة، ولكننا نلاحظ أن مثل هذا الموقف الأمريكي يصعب تفسيره بمعزل عن وجود رغبة أمريكية دفينة في تفادي الإعتراف علناً بتورط إيران وبحيث تصبح مطالبة بالرد عليها أو على الأقل منح إسرائيل ضوء أخضر للرد وتوفير حماية عسكرية لها. وهنا نلاحظ أن الولايات المتحدة ترددت أو امتنعت عن توجيه إتهامات لإيران عقب قيام الأخيرة باستهداف حلفاء واشنطن وشركائها مرات عدة إذ تكرر ذلك من قبل في عمليات استهداف المنشآت النفطية السعودية والإماراتية، وكانت الأسباب الأمريكية ذاتها تقف وراء الصمت أو التردد أو انكار وجود معلومات حول تورط إيراني محتمل في هذه الهجمات.