الزيارة تعكس استئناف أجواء «الأخوة» في العلاقات الإماراتية – القطرية، وعودة الأمور إلى طبيعتها في هذه العلاقات وانقشاع سحابة الصيف العابرة التي مرت بها خلال الفترة الماضية.
لا شك أن أي تحركات بـين قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية باتت موضع اهتمام المراقبين والخبراء على الصعيدين الإقليمي والدولي، ولاسيما ما يجري على صعيد العلاقات الإماراتية – القطرية، وتحديدا زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى أبوظبي مؤخرا، وذلك لأسباب عدة، أولها تنامي الثقل والمكانة الإستراتيجية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وتحولها إلى لاعب فاعل ومؤثر في الملفات الحيوية بمنطقة الشرق الأوسط، وهو ما يترجم في تبعية لرصد تحركات هذه الدول الدبلوماسية والسياسية.
والأمر الثاني أن هذه الزيارة تعكس استئناف أجواء “الأخوة” في العلاقات الإماراتية – القطرية، وعودة الأمور إلى طبيعتها في هذه العلاقات وانقشاع سحابة الصيف العابرة التي مرت بها خلال الفترة الماضية.
والأمر الثالث أن الزيارة تؤكد وجود تنسيق بين الدوحة وأبوظبي حيال الملفات الإقليمية الساخنة، وتنسف التحليلات القائلة بوجود صراع مصالح أو مبارزات استراتيجية حول الأدوار والمكاسب في ملفات إقليمية عدة مثل سوريا وغيرها.
من المنطقي أن نكون جميعا على قناعة بأن فكرة “التطابق التام” في وجهات النظر والرؤى والتصورات بين الدول قد سقطت تماما، ومن العبث، وربما السذاجة التحليلية المفرطة، القول بها في ظل علاقات دولية تتسم بقدر هائل من التعقيد والتنافس والتشابك، ومن ثمة يصبح من الطبيعي أن تفرز التفاعلات الدولية تباينات واختلافات سواء في وجهات النظر في مصالح الدول في نقاط وملفات عدة، ويبقى المحك الرئيسي والمعيار الأساسي للقياس هو كيفية التعاطي مع هذه التباينات وتلك الخلافات ومقدرة طرفي العلاقة، أو أطرافها، على ابتكار حلول وبدائل سياسية تحفظ المصالح وتجسر الخلافات من خلال البحث المشترك عن نقاط التقاء ومشتركات، وهذه هي طبيعة العلاقات الدولية التفاعلية في القرن الحادي والعشرين.
تصريحات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي خلال استقباله لأمير قطر تكشف بدقة عن توجه إماراتي أصيل نحو تمتين وحدة الصف الخليجي وإعلاء مصالح شعوب دول مجلس التعاون، فضلا عن مصالح الشعوب العربية بشكل عام، حيث اعتبر أن هذه الزيارة “تجسد عمق الروابط الأخوية التي تجمع البلدين وتعزز مسيرة مجلس التعاون الخليجي نحو مزيد من العمل المتجانس والمتوافق مع المصالح العليا لدول المجلس”، وأشار إلى أن دولة الإمارات العربية المتحدة بقيادة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة تعمل على توثيق عرى التضامن والتعاون والتآزر بين أبناء دول مجلس التعاون في مواجهة كافة التحديات والتهديدات التي تطال أمن واستقرار المنطقة، وهذه التوجهات، في مجملها، تمتلك عمقا تاريخيا لا يستهان به في السياسة الخارجية الإماراتية، ومن ثم فهي ليست كلمات وعبارات بروتوكولية عابرة بل قواعد ومعايير للأداء السياسي والدبلوماسي الإماراتي، ونستنتج منها حرصا شديدا من القيادة الرشيدة في دولة الإمارات العربية المتحدة على وحدة الصف الخليجي في هذه المرحلة التاريخية الحساسة.
التعاون والتضامن إذن عادا إلى صدارة أجندة العلاقات الخليجية – الخليجية، وهناك إصرار سياسي واضح على إعلاء هذه القيمة الأصيلة في العلاقات بين الأشقاء، وهذا الأمر بحد ذاته ليس عابرا ولا طارئا في أجواء العلاقات الخليجية، فهو التئام شمل قادة دول التعاون على مدار تاريخ المنطقة وهو السمة الأساسية استنادا إلى قناعة متجذرة وليست مصطنعة بحتمية المصير المشترك بين أبناء شعوب دول التعاون، فالإرث التاريخي، كما قال الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وعلاقات المصاهرة والقربى والتداخل العائلي والأسري الفريد في منطقتنا كلها عوامل ومعطيات تفرض نفسها على أجندة صانع القرار في هذه الدول وتجعل من الصعب تجاهلها أو القفز عليها.
أكثر ما يلفت انتباهي، شخصيا، في التواصل بين قادة دول مجلس التعاون هو أن أي خطوة في هذا المسار وعلى هذا الدرب هي بمنزلة “مصل” جديد يوفر منعة وحصانة للصف الخليجي في مواجهة محاولات التفريق واللعب على وتر الخلافات والتباينات سواء من القوى الإقليمية المتربصة بشعوبنا ودولنا، أو من القوى الكبرى التي تسعى إلى فرض خططها التي تعكس مصالحها ورؤاها الإستراتيجية للشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين، وفي القلب من ذلك إعادة هندسة الإقليم وفق مقاييس ومعايير جيوسياسية جديدة لا تراعي مصالح الشعوب الخليجية والعربية.
إن وجود أمير قطر في أبوظبي، وكذلك الزيارات المتبادلة التي تمت بين قادة ومسؤولي البلدين خلال الآونة الأخيرة، يوفر إشارات مهمة على أن أجواء العلاقات قد استعادت عافيتها وزخمها وعادت إلى مسارها الطبيعي، حيث انسيابية التواصل والحوار والتشاور دون عوائق أو حواجز أو حسابات معقدة، وهذه بحد ذاتها إشارة مهمة تكفي للتغلب على أي تباين في وجهات النظر والتوصل إلى قناعات مشتركة تضع مصالح الشعبين الشقيقين في بؤرة الاهتمام وصدارة الأهداف، لاسيما أن التحديات والتهديدات الاستراتيجية من حولنا تتفاقم، ولم يعد بوسع دولة واحدة، مهما تعاظمت قدراتها ومقومات قوتها الشاملة، على مجابهتها والتغلب عليها، ما يجعل التعاون خيارا حتميا لا فكاك منه.
حيث يضع الوضع الراهن للمشهد العربي بتفاصيله المرعبة والمربكة على حد سواء، على كاهل قادة دول مجلس التعاون مسؤولية تاريخية لإنقاذ عشرات الملايين من الشعوب العربية، ابتداء من سوريا حتى اليمن، مرورا بالعراق وليبيا، من براثن سيناريوهات ظلامية ومصائر مجهولة، ناهيك عن مساندة بقية الدول العربية الشقيقة في مواجهة الأوضاع الداخلية غير المستقرة، كي يجتاز العرب عتبات العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين بأقل قدر من الخسائر.