مشكلة الحروب في عصر التهديدات اللامتماثلة لا تتعلق بحجم الجيوش ولا بقدراتها بل ترتبط بمقدرتها على مواجهة تهديدات غير مألوفة للجيوش التقليدية.
بعد انهيار الجيش العراقي وتفكيكه عقب الغزو الأميركي في مارس 2003، تبدو خطط استهداف الجيش المصري مغرية لأي أطراف إقليمية أو دولية تسعى إلى الانقضاض على ما تبقى من الدول العربية.
نشر الفوضى الإقليمية يمثل إستراتيجية كونية بالنسبة إلى العديد من القوى الإقليمية والدولية، أمّا الأدوات والتكتيكات المستخدمة في تحقيق هذا الهدف الحيوي فهي متعددة ومتغيرة، ومنها تنظيم داعش وجماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم فإنّ ما يُحاول تنظيم “أنصار بيت المقدس”، الموالي لتنظيم داعش أن يفعله في سيناء المصرية ليس سوى محاولة للسيطرة على بقعة من الأرض لتحويلها فيما بعد إلى نقطة انطلاق للعمل المسلح المستمر لاستنزاف قدرات الجيش المصري.
الخبراء المصريون يؤكدون أن حجم القوات المصرية المشاركة في عمليات سيناء لا يمثل سوى نسبة ضئيلة من قوام الجيش المصري، وهي نسبة قدرها الرئيس عبدالفتاح السيسي ذاته بحوالي 1 بالمئة من حجم الجيش المصري، وهذا صحيح لأن غالبية قوات الجيش تشارك في تأمين الحدود المصرية مع ليبيا والسودان، كما أنّ نسبة العتاد العسكري الموجود في سيناء لا تمثل هي الأخرى سوى نسبة بسيطة ممّا يملكه الجيش المصري. ولكن يجب أن ندرك أن مشكلة الحروب في عصر التهديدات اللامتماثلة لا تتعلق بحجم الجيوش ولا بتجهيزاتها ولا بقدراتها ولا بمستويات تفوقها العسكري والعملياتي، بل ترتبط بالأساس بمقدرتها على مواجهة تهديدات غير مألوفة للجيوش التقليدية، وهذه التهديدات نابعة من تنظيمات وجماعات ذات قدرة عالية على التحرك والمناورة والهروب، لذلك فإنّ هذه التنظيمات تمثل تحدّيا للجيوش التي اعتادت خوض حروب برية ومواجهات واسعة في مواجهة جيوش نظامية أخرى تعتمد استراتيجيات عسكرية يمكن التصدي لها ومواجهتها، كما أن تسلح الجيوش التقليدية في العالم أجمع يقوم على أنماط وهياكل تسلح نفذت لمواجهة استراتيجيات وخطط مضادة لجيوش الدول الأخرى، ووفق الخبرات العسكرية التي اكتسبتها هذه الجيوش خلال الحروب التي خاضتها وعزّزت من خلالها قدراتها وخبراتها المتراكمة عبر عقود وسنوات مضت.
حروب الجيلين الرابع والخامس تعتمد في قدر منها فقط على المواجهات والقدرات العسكرية، والجزء الأهم والأخطر في استراتيجياتها يضم خليطا من الأدوات الإعلامية (عبر وسائل الإعلام التقليدية والجديدة معا) والتكتيكات الاقتصادية والنفسية والسياسية، ومن هنا قد لا يفهم البعض عدم مقدرة بعض الجيوش في العالم أجمع ـ بما فيها الجيش الأميركي الأكثر تطورا بشريا وتقنيا ـ على استئصال التنظيمات الإرهابية واجتثاث جذورها من الأراضي والصحاري التي تختبئ فيها، وربّما يرى بعض هؤلاء أن استمرار هذه التنظيمات هو تعبير عن قوتها ومقدرتها التي تفوق قدرات بعض الجيوش التي تواجهها وهذا ليس صحيحا إجمالا، لأن طبيعة المواجهات التي تتم على الأرض تحد من المقدرة العملياتية التقليدية للجيوش، وتتطلب خطط تدريب وتأهيل تتناسب مع طبيعة العدو الجديد.
كما أن طبيعة التنظيمات والجماعات تختلف عن طبيعة الجيوش ومعايير النصر والهزيمة نفسها مختلفة لدى الجانبين.
ففي حين يتمثّل معيار النصر بالنسبة إلى الحركة في المقدرة على البقاء، تبدو القصة بالنسبة إلى الجيوش مُختلفة، فهي تسعى إلى تحقيق أهداف لا يمكن تلمّسها سوى في حالة خوض حرب ضد جيوش مماثلة، ناهيك عن أن موازين القوة التي تميل لمصلحة الجيوش تجعلها في مرمى النقد والاتهام بعدم المقدرة على استئصال مثل تلك الحركات أو التسبب في مقتل مدنيين رغم الإدراك المسبق بأن تكتيكات الميلشيات والحركات تقوم على الكر والفر والضرب والاختباء وسط المدنيين الذين تتخذهم حوائط بشرية للاحتماء ثم ادعاء استهدافهم من قبل الجيوش النظامية المعادية.
ربما يرى البعض أن استهداف الجيش المصري يعكس عداء التنظيمات المناوئة للنظام السياسي الحالي في مصر، إلاّ أنّ هذا الأمر يعكس جزءا من الموضوع وليس كله، لأنّ استهداف الجيش المصري هو هدف استراتيجي حيوي لبعض القوى الإقليمية والدولية بغض النظر عن سياسات وتوجهات السيسي والأوضاع الداخلية السائدة في مصر. وبموازاة ذلك، لا يمكن الاستسلام تماما للفكرة القائلة بأن مصلحة إسرائيل والولايات المتحدة تكمن في الإبقاء على الأمن والاستقرار في الداخل المصري، أو أن مصلحة إسرائيل تتنافر مع فكرة وجود داعش أو حماس أو القاعدة على حدودها مع مصر. وفي ضوء ما سبق يمكن إثارة تساؤل مهم هو؛ أيهما يمثل الخيار الأفضل بالنسبة إلى أمن إسرائيل، انهيار الجيش المصري وانزلاق مصر إلى الفوضى والاضطراب أم بقاء ذلك الجيش وتماسكه واكتسابه المزيد من القوى والخبرات العسكرية؟
الإجابة على هذا التساؤل قد لا تحتاج إلى تحليل معمق وجهد بحثي كبير في ضوء الأمن الاستراتيجي غير المسبوق الذي تشعر به إسرائيل منذ غياب الجيش العراقي عن الساحة بانهياره، ثم تحوّله إلى جيش صغير محدود القدرات وغير قادر على مواجهة تنظيمات إرهابية بمفرده، ناهيك عن خوض الحروب ضد الدول.
الأمر إذا شبه محسوم لمصلحة اختفاء الجيوش العربية، أو انشغالها بصراعات ممتدة زمنيا لاستنزاف قدراتها وتدمير الروح المعنوية لجنودها وحصر تركيزها على العصابات التي تقاتلها في الداخل وصولا إلى هندسة شرق أوسط جديد. وفي هذا الإطار تبرز الأدوار والأدوات التنفيذية المستخدمة في ذلك مثل جماعة الإخوان المسلمين والقاعدة وداعش، هذا الأخير الذي بدأ يتمدّد ويتوسّع محاولا الظهور بمظهر القوة العظمي القادرة على خوض أكثر من حرب في وقت واحد، وهو التوجّه الذي يبدو أنه يلقى دعما أو يقابل بترحيب ضمني أو غض طرف من قوى أخرى تتلاقى أهدافها مع أهدافه، فهو يقدم أفضل الخدمات المجانية لأعداء العرب والإسلام، ولذلك فمن الصعب الاقتناع بأن قادة مثل تلك التنظيمات والجماعات التي ترفع شعارات الإسلام زورا وبهتانا تعمل بمعزل عن قوى معادية للعرب والمسلمين، خصوصا أنّ تاريخها حافل بسجلات التعاون مع قوى الاستعمار القديم وخدمتها له.