من الصعب الاقتناع بأن قادة التنظيمات والجماعات التي ترفع شعارات الاسلام زوراً وبهتاناً يعملون بمعزل عن قوى معادية للعرب والمسلمين.
بعد انهيار وتفكيك الجيش العراقي عقب الغزو الأميركي في مارس 2003، وبعد إنهاك الجيش السوري ثم تشتيت جهوده ومحاصرته في نحو 25% من الأراضي السورية، تبدو خطط استهداف الجيش المصري مغرية لأية أطراف اقليمية أو دولية تسعى إلى الانقضاض على ما تبقى من الدول العربية.
نشر الفوضى الاقليمية يمثل استراتيجية كونية لقوى اقليمية ودولية، أما الأدوات والتكتيكات المستخدمة في تحقيق هذا الهدف الحيوي فهي متعددة ومتغيرة، منها تنظيم داعش وجماعة الإخوان المسلمون، ومن ثم فإن ما يحاول تنظيم "أنصار بيت المقدس" الموالي لتنظيم داعش أن يفعله في سيناء المصرية ليس سوى محاولة للسيطرة على بقعة من الأرض لتحويلها فيما بعد إلى نقطة انطلاق للعمل المسلح المستمر لاستنزاف قدرات وطاقات الجيش المصري.
الخبراء المصريون يؤكدون أن حجم القوات المصرية المشاركة في العمليات بسيناء لا يمثل سوى نسبة ضئيلة من قوام الجيش المصري، وهي نسبة قدرها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ذاته بحوالي 1% من حجم الجيش المصري، وهذه صحيح لأن غالبية هذا الجيش تشارك في تأمين الحدود المصرية مع ليبيا والسودان، كما أن نسبة العتاد العسكري الموجود في سيناء لا تمثل هي الأخرى سوى نسبة بسيطة من تسلح الجيش المصري. ولكن يجب أن ندرك أن مشكلة الحروب في عصر التهديدات اللامتماثلة لا تتعلق بحجم الجيوش ولا تجهيزاتها ولا قدراتها ولا مستويات تفوقها العسكري والعملياتي، بل ترتبط بالاساس بمقدرتها على مواجهة تهديدات غير مألوفة للجيوش التقليدية، وهذه التهديدات نابعة من تنظيمات وجماعات ذات قدرة عالية على التحرك والمناورة والهروب. لذا فإن هذه التنظيمات تمثل تحديا للجيوش التي اعتادت خوض حروب برية ومواجهات واسعة في مواجهة جيوش نظامية أخرى تعتمد استراتيجيات عسكرية يمكن التصدي لها ومواجهتها، كما أن تسليح الجيوش التقليدية في العالم أجمع يقوم على أنماط وهياكل تسلح نفذت لمواجهة استراتيجيات وخطط مضادة لجيوش الدول الأخرى، ووفق الخبرات العسكرية التي اكتسبتها هذه الجيوش خلال الحروب التي خاضتها وعززت من خلالها قدراتها وخبراتها المتراكمة عبر عقود وسنوات مضت.
حروب الجيلين الرابع والخامس تعتمد في قدر منها فقط على المواجهات والقدرات العسكرية، والجزء الأهم والأخطر في استراتيجياتها يضم خليط من الأدوات الاعلامية (عبر وسائل الاعلام التقليدية والجديدة معا) والتكتيكات الاقتصادية والنفسية والسياسية. من هنا قد لا يفهم البعض عدم مقدرة بعض الجيوش في العالم أجمع ـ بما فيها الجيش الأميركي الأكثر تطورا بشريا وتقنيا ـ على استئصال التنظيمات الارهابية واجتثاث جذورها من الأراضي والصحاري التي تختبىء فيها. وربما يرى بعض هؤلاء أن استمرار هذه التنظيمات هو تعبير عن قوتها ومقدرتها التي تفوق قدرات بعض الجيوش التي تواجهها وهذا ليس صحيحاً إجمالاً، لأن طبيعة المواجهات التي تتم على الأرض تحد من المقدرة العملياتية التقليدية للجيوش، وتتطلب خطط تدريب وتأهيل تتناسب مع طبيعة العدو الجديد. كما أن طبيعة التنظيمات والجماعات تختلف عن طبيعة الجيوش ومعايير النصر والهزيمة نفسها مختلفة لدى الجانبين.
على سبيل المثال، نلحظ جميعاً أن حركة حماس تطلق بعض الصواريخ البدائية القديمة على المدن الاسرائيلية فتثير ذعر المدنيين وتدفع الجيش الاسرائيلي لشن عمليات عسكرية واسعة تستخدم فيها القوات الجوية والقدرات الصاروخية والقوات البرية وتلحق هذه العمليات خسائر كبيرة بالفلسطينيين والبنية التحتية للحركة، ومع ذلك تخرج قيادات الحركة وتدعي الانتصار في مواجهة الجيش الاسرائيلي لمجرد أنها استطاعت البقاء وحافظت على نفسها من الفناء وبغض النظر عن خسائرها البشرية والمادية وما جلبته من خسائر للمدنيين الفلسطينيين على المستويين البشري والمادي، حيث أن معيار النصر بالنسبة للحركة يتمثل في المقدرة على البقاء. أما الأمر بالنسبة للجيوش فيبدو مختلفا، فهي تسعى إلى تحقيق أهداف لا يمكن تلمسها سوى في حالة خوض حرب ضد جيوش مماثلة، ناهيك عن أن موازين القوة التي تميل لمصلحة الجيوش تجعلها في مرمى النقد والاتهام بعدم المقدرة على استئصال مثل هذه الحركات أو التسبب في مقتل مدنيين رغم الإدراك المسبق بأن تكتيكات الميلشيات والحركات تقوم على الكر والفر والضرب والاختباء وسط المدنيين الذين تتخذهم حوائط بشرية للاحتماء ثم ادعاء استهدافهم من قبل الجيوش النظامية المعادية!
ومثلما فعلت حماس في غزة كرر حزب الله اللبناني الادعاء ذاته بالانتصار في حروب عدة إسرائيل رغم أنه تسبب في جلب الدمار والخراب على مدن لبنانية بأكملها، ولكن كان بقاء زعيمه حسن نصرالله على قيد الحياة هو المعيار الأهم الذي يعني تحقق النصر على إسرائيل بالنسبة للحزب ورعاته الاقليميين!
هكذا تتسبب هذه الحروب غير التقليدية في تغيير مفاهيم النصر وبالتالي حدوث تحول في الاستراتيجيات جراء الإشكاليات التي تواجه الجيوش النظامية في هذه المواجهات التي تنال من صورتها الذهنية في أحيان كثيرة.
ربما يرى البعض أن استهداف الجيش المصري يعكس عداء هذه التنظيمات للنظام السياسي الحالي في مصر، وهذا الأمر يعكس جزءا من الموضوع وليس كله، لأن استهداف الجيش المصري هو هدف استراتيجي حيوي لبعض القوى الاقليمية والدولية بغض النظر عن سياسات وتوجهات الرئيس السيسي والأوضاع الداخلية السائدة في مصر. وبموازاة ذلك، لا يمكن الاستسلام تماما للفكرة القائلة بأن مصلحة اسرائيل والولايات المتحدة تكمن في الابقاء على الأمن والاستقرار في الداخل المصري، أو أن مصلحة إسرائيل تتنافر مع فكرة وجود داعش أو حماس أو القاعدة على حدودها مع مصر. وفي ضوء ما سبق يمكن اثارة تساؤل مهم هو: أيهما افضل بالنسبة إلى أمن إسرائيل، انهيار الجيش المصري ـ لا قدر الله ـ وانزلاق مصر الشقيقة بحجم سكانها الهائل إلى فوضى واضطراب هائلين قد لا تفيق منهما سوى بعد عشرات السنوات لا سمح الله، أم أن بقاء الجيش المصري وتماسكه واكتسابه لمزيد من القوى والخبرات العسكرية هو الخيار الأفضل لإسرائيل وأمنها؟
اجابة هذا التساؤل قد لا تحتاج إلى تحليل معمق وجهد بحثي كبير في ضوء الأمن الاستراتيجي غير المسبوق الذي تشعر به اسرائيل منذ غياب الجيش العراقي عن الساحة بانهياره ثم تحوله إلى جيش صغير محدود القدرات وغير قادر على مواجهة تنظيمات الارهاب بمفرده ناهيك عن خوض الحروب ضد الدول! فضلا عن تآكل قدرات الجيش السوري بشكل هائل وانشغاله التام في خوض صراعات وحروب داخلية عدة مع تنظيمات الارهاب وميلشيات طائفية ومذهبية.
الأمر إذاً شبه محسوم لمصلحة اختفاء الجيوش العربية أو في أسوأ التقديرات انشغالها بصراعات ممتدة زمنيا لاستنزاف قدراتها وتدمير الروح المعنوية لجنودها وحصر تركيزها في العصابات التي تقاتلها بالداخل وصولا إلى هندسة شرق أوسط جديد. وفي هذا الإطار تبرز الأدوار والأدوات التنفيذية المستخدمة في ذلك مثل جماعة الإخوان المسلمين والقاعدة وداعش الذي يمتلك أجندة دينية سياسية لا تخفى على أحد، ولا يستطيع أحد إنكارها فهي واضحة، ويعلنها التنظيم على الملأ عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن تمدد التنظيم وتوسعه بهذا الشكل ومحاولته الظهور بمظهر القوة العظمى القادرة على خوض أكثر من حرب في وقت واحد، هذا التوجه يلقى دعما او يقابل بترحيب ضمني أو غض طرف من قوى أخرى تتلاقى أهدافها مع أهداف هذا التنظيم الخبيث، الذي يقدم أفضل الخدمات المجانية لاعداء العرب والاسلام. ومن الصعب الاقتناع بأن قيادات مثل هذه التنظيمات والجماعات التي ترفع شعارات الاسلام زوراً وبهتاناً تعمل بمعزل عن قوى معادية للعرب والمسلمين، خصوصا أن تاريخ هذه التنظيمات حافل بسجلات تعاونهم مع الاستعمار القديم وخدمتهم له.