في خضم الحرب ضد الفكر الديني المتطرف، تنهال الكتابات حول كيفية استئصال هذا الفكر واجتثاث جذوره من المجتمعات العربية والإسلامية، وتتنوع الاجتهادات والاستراتيجيات والخطط والسياسات المقترحة في هذا الشأن، وهذا أمر محمود ولا غبار عليه، ولكنني لاحظت وسط هذا الكم الهائل من النقاشات والكتابات المنشورة، أن هناك أصوات تذهب في اتجاه فكري مضاد تماما للتطرف الديني، الذي يتجسد في تنظيمات وجماعات الإسلام السياسي، وفي مقدمتها الاخوان المسلمين وداعش والقاعدة وغيرها.
وقد حضرت مؤخراً أمسية دينية تضمنت محاضرة لأحد الفقهاء الدينيين المعروفين بوسطيتهم وسماحتهم واعتدالهم، ودار نقاش بينه وبين أحد المثقفين حول كتب التراث، وعلاقتها بما تعانيه بعض المجتمعات العربية والإسلامية من عنف وإرهاب، وكان النقاش كاشف بجدارة عن ثغرة فكرية تنفذ منها جماعات التطرف والارهاب، فالبعض يميل إلى مايقترب من القول بالتخلص من كتب التراث الديني جميعها واستبدالها بفكر جديد ومعاصر تماماً، متهماً هذه الكتب بنشر التطرف وتحميلها مسؤولية شيوع الارهاب، وكان رد الفقيه المعتدل على ذلك علمي ومقنع ويعكس فكراً مستنيراً، ولكنه لم يلق تفهماً من الطرف الآخر، وهذا هو الخطر بعينه لأن رفض الرأي المعتدل هو أيضا ترجمة للتطرف الفكري، بل هو الوجه الآخر للتطرف الديني الذي يرفض بدوره الرأي المعتدل، وينتج هذا الكم الهائل من الارهاب.
الإشكالية التي تبرز وسط ركام هذه الطروحات أن البعض لا يفرق بين الدين من ناحية والتنظيمات الدينية من ناحية ثانية، وينال من الدين الإسلامي الحنيف في معرض توجيه سهامه الكلامية والنقدية إلى فكر هذه التنظيمات، وهنا مكمن الخطورة، لأن الاساءة إلى الدين توفر للمتطرفين وقودا ثمينا لترويج بضاعتهم التالفة والادعاء بأن من ينتقد فكرهم هم من أعداء الدين الإسلامي وكارهوه، وهذا ليس صحيحا بطبيعة الحال، ولكنهم يقبضون على بعض "السقطات" والاساءات التي تتسرب إلى بعض المقالات ـ بقصد أو من دون قصد ـ ويمسكون بها ثم ينطلقون منها في الهجوم على منتقدي الفكر الارهابي المتطرف.
المفترض أن الجميع يدركون حساسية الدين في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فالدين يحتل مكانة روحية لا ينبغي الانتقاص منها، ومن ثم فإن مراعاة خصوصيته في هذه المجتمعات مسألة حتمية لمن يريد إصلاح هذه المجتمعات وتخليصها من أفكار ناتجة عن تأويل وتفسيرات خاطئة لبعض أحكام هذا الدين. فالعمل على تفكيك العلاقة بين ماهو ديني وما هو دنيوي ينبغي أن تتم بحذر شديد في مجتمعات تمتلك مثل هذه الحساسيات، كي لا تستثار عوامل الحساسية الفطرية الكامنة وتتهيىء تلقائيا لقبول مزاعم تروجها التنظيمات المتطرفة وتنفخ جميعها في فكرة العداء للدين والرغبة في إبعاده عن المجال العام كلياً، وهذا ليس صحيحاً، بل المطلوب هو انهاء اختطاف الدين واحتكاره لصالح جماعات ارهابية متطرفة، والقضاء على أي ممارسات تسىء للدين الحنيف وتشوه صورته الذهنية، التي باتت مرتبطة نمطياً إلى حد كبير بالعنف والقتل والذبح وسفك الدماء، والعودة به إلى أصوله الفقهية الحقيقية التي أسبغت عليها هذه التنظيمات والجماعات قدرا كبيرا من التحريف والتقول والتأويل المسىء.
اللحظة التاريخية الراهنة مأزومة وتحمل في باطنها عوامل انكشافها على الأخطار الاستراتيجية كافة، وأصحاب الفكر المدمر يزعمون أنهم مصلحو الأمة، وهم من ينطبق عليهم قول المولى عزوجل "إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ". فالأمور قد التبست على كثير من الناس، ويكاد اليأس والإحباط يسيطر على شريحة عريضة من الشعوب في عالمنا العربي والإسلامي.
الخطاب الوسطي المتوازن يكاد يغيب وسط طوفان الكلمات والآراء التي تتراشق وتتصارع عبر فضاءات وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التقليدية، وفي أحسن الأحوال فإن الوسطية والاعتدال يشقان طريقهما بصعوبة بالغة وسط هذا الضجيج والتشويش على القيم الدينية الأصيلة، والنتيجة أن جهود تكريس الوسطية والاعتدال والتسامح والتعايش وقبول الاخر الديني والفكري والعرقي، تواجه صعوبات جمة وعقبات ربما تحول دون انتشارها في النطاقات المنشودة ناهيك عن الاقتناع بها وتطبيقها، ويصبح الجميع محاصرون بين تطرفين، أحدهما ديني والآخر فكري، وتصبح لغة التطرف هي السائدة والمسيطرة والطاغية على الأجواء ومن ثم تقترب لحظات الجنون والانتحار الجماعي للمجتمعات كما تتحدث عنها أدبيات علم السوسيولوجي.
من الضروري أن يدرك الجميع أن التطرف هو مقدمة للقتل، وأن المغالاة في العداء تنشر البيئة الحاضنة للتطرف الحركي، الذي يترجم عادة التطرف الفكري، ويحوله إلى خطط تنفيذية إرهابية الطابع، وهذا الأمر ينسحب على التطرف الديني والتطرف الفكري على حد سواء، فاستئصال الفكر الارهابي يتطلب استراتيجية شاملة تتم عبر جراحات فكرية وتربوية مشرطيةتستهدف بالأساس استعادة الدين الإسلامي الحنيف بأصالته وجوهره وقيمه السمحة، وتراعي ألا تُقطع الخيوط الدقيقة الفاصلة بين الدين كجوهر روحي للمجتمعات من ناحية، وبين ممارساته وتطبيقاته ومن يزعم الحديث باسمه ويرتكب أبشع الجرائم حاملاً لوائه من ناحية ثانية.
فخطوات الفصل بين المقدس والمدنس ينبغي أن تتم بعناية فائقة ومن عقول واعية، لأن أية أخطاء في هذه العملية الحساسة ستكون باهظة التكلفة على أمن المجتمعات واستقرارها، وعندما يردد البعض مقولة "الكلمة أمانة" ينبغي أن يترجم ذلك إلى التزام جماعي، لاسيما في لحظات التوتر والاضطراب وضعف الرؤية المجتمعية.
العقل الجمعي العربي مشغول في الفترة الراهنة بالبحث عن مخارج من دائرة النار الجهنمية السائدة وتجلياتها الطائفية والأمنية بالغة الخطورة، التي تجتاح المنطقة برمتها؛ وإبعاد جوهر الدين عن التراشق الديني والفكري السائد هو في حقيقته تحييد للفكر المتطرف، ولتكن القاعدة الألهية الحاكمة للجميع هي "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، وإلا فإن عدم التفرقة بين الدين بقيمه الأصيلة وثوابته المقدسة من ناحية وتطبيقه وممارساته لدى تنظيمات الارهاب من ناحية ثانية سيقود إلى إشكاليات لا تحمد عقباها.
شؤون عربية
بين تطرفين: تخليص الدين من الارهاب
- الزيارات: 771