هل يمكن بلورة خطط رصد استباقي لشخصية الارهابي المحتمل؟ إننا بحاجة إلى تشريح اجتماعي ـ نفسي للظاهرة الارهابية كي يمكن العمل بجدية على مسارات وقائية تصب في خانة استئصال هذا الفكر الخبيث على المدى البعيد.
توقفت ملياً عند حادث التفجير الانتحاري الذي ارتكبه أحد عناصر تنظيم "داعش" في مدينة أبها السعودية مؤخرا، فقد جذب انتباهي أن هذا الاعتداء الارهابي تحديداً ينطوي على دلالات عدة أولها استهداف منتمين إلى المذهب السني وليس الشيعي من جانب تنظيم يدعي أنه يدافع عن السنة ضد الشيعة، ما يعني أن الثابت الوحيد لدى تنظيم داعش هو القتل وسفك الدماء وعدا ذلك هو أوراق يتلاعب بها، فتارة يدعي أنه يستهدف الشيعة، وتارة يستهدف السنة مبرراً ذلك بمزاعم واهية!
لم يكن استهداف مساجد سنية سابقة أولى في سجل داعش الدموي، فقد سبق أن ارتكب جرائم مماثلة في العراق، وهذا الأمر يعني أن القتل هو ديدن التنظيم وعقيدته الوحيدة التي يراهن عليها لتحقيق مصالحه وأهدافه بغض النظر عن مزاعمه وادعاءاته الخاوية التي يسطر بها بياناته.
مكافحة الارهاب المتلون عبر وسائل وقنوات مختلفة تحتاج إلى جهود وطاقات هائلة، وتتطلب خططاً وقائية تركز على أمور عدة من بينها ـ برأيي، الاكتشاف المبكر للعناصر البشرية المرشحة للخضوع لتأثير الدعاية الداعشية من المتعاطفين مع أفكاره وهي مرحلة تسبق الانخراط الفعلي في صفوف التنظيم.
هل يمكن بلورة خطط رصد استباقي لشخصية الارهابي المحتمل؟ هناك معاهد دراسات وبحوث غربية قطعت أشواطاً معقولة على هذا الدرب، ونحن في العالم العربي والاسلامي بحاجة إلى جهود بحثية مماثلة كجزء مهم من الخطط والاستراتيجيات الحيوية لمكافحة الفكر الارهابي بشكل عام.
هناك برامج تربوية عدة تنشر الوعي حول ظواهر مجتمعية سلبية مثل الادمان وغير ذلك، ويمكن أيضا بلورة برامج تربوية لتفكيك الصورة النمطية للإرهابي والتعرف على ملامحها وسماتها وكيفية تشكلها، والتصورات والمدركات التي أسهمت في بلورتها بما يفيد في تحديد استباقي للشباب القابل للتورط والخضوع للفكر الارهابي.
تشير الدراسات النفسية إلى سمات محددة لعناصر التنظيمات الاجرامية، وتؤكد أنها ليست سمات فردية بل يمتلكون سمات مشتركة تتمحور حول الذات، التي هي محور التفكير الفردي في مرحلتي المراهقة والشباب، وهما المرحلتان اللتان تصل فيهما عملية التجنيد والاستقطاب إلى ذروتها.
إحدى الإشكاليات التي تواجهها المجتمعات العربية والاسلامية في معالجة التطرف والارهاب هو نقص التوجيه والإرشاد الاجتماعي والديني والنفسي في مرحلة المراهقة، وتتفاقم آثار هذه الإشكالية في ظل انحسار دور الأسرة والعائلة لمصلحة فاعلون آخرون مؤثرون مثل وسائل التواصل الاجتماعين وماتموج به من عناصر نشطة ومؤثرة ومحترفة في الاقناع وتشكيل الاتجاهات وتغيير القناعات لمصلحة التنظيمات الارهابية.
ثمة إشكالية أخرى تتعلق بغياب هذه الشريحة العمرية عن دائرة اهتمام السياسات الرسمية في معظم الدول العربية والاسلامية، حيث تسقط هذه الشريحة من اولويات التخطيط التربوي ولا تجد من يخاطبها سوى نفر من الدعاة الذين تنافر مفرداتهم ولغة خطابهم وحتى أساليب حياتهم مع جمهورهم المستهدف، ويتحولون من الجذب إلى التنفير، وربما التحييد في أفضل الأحوال وأحسنها.
إشكالية أخرى تتعلق بصورة الارهابي النمطية التي تصنعها وسائل الاعلام والدراما العربية، فهي عادة ما تصور الارهابي في قالب نمطي محدد، مثير للسخرية والاستهزاء، وتترسخ هذه الصورة في ذهن اغلبية الجمهور بمرور الوقت بحيث يصعب معها اكتشاف أي انحرافات فكرية أو شطط ديني قد يترجم لاحقا إلى تصرفات إجرامية سواء عبر قرار منفرد ضمن ما يعرف اصطلاحا بظاهرة الذئاب المنفردة، او عبر الانخراط تنظيمياً في جماعة ارهابية عبر وسائل التجنيد والاستقطاب المختلفة والمنتشرة جغرافياً وسيبرانياً في مناطق شتى من العالم العربي والإسلامي.
صورة الإرهابي التي تشكلت عبر سنوات مضت في الوعي الجمعي للكثيرين تتكون من عناصر ثابتة لا تتغير مثل الذقن والجلباب الأبيض القصير والتجهم، واستخدام العبارات والمفردات الدينية نادرة التداول، وتميل للنساء من دون إظهار ذلك وبطريقة ساذجة أحياناً...الخ، وهي صورة نمطية ترسم بدورها عناصر شخصية متخلفة غبية غير قادرة على التفكير، ولعل ترسخ هذه الصورة عامل يسهم، في تقديري، بدرجة ما في اختراق تنظيم "داعش" لأوساط شريحة ليست قليلة من الشباب والمراهقين في دول عربية عدة، فالتنظيم يمتلك أدوات دعاية حديثة تخاطب فكر الشباب وتتحدث لغته التقنية، وتبتعد تماماً عن الصورة التقليدية الراسخة في الوعي الجمعي عن الارهابي، حيث يحرص التنظيم على إطهار عناصره بمظهر مغاير بل مبهر أحياناً باستخدام وسائل التصوير والمؤثرات الفنية الحديثة.
بل إن بعض الدعايات التي نشرها التنظيم قد قدمت بشكل شبابي تقني ساخر للرد على تقارير او أخبار حول عناصر التنظيم، ما يعني ان التنظيم يوجه سهامه مباشرة إلى هذه الشريحة العمرية، وهذا هو العنصر الأخطر في الأمر كله.
إننا بحاجة إلى تشريح اجتماعي ـ نفسي للظاهرة الارهابية كي يمكن العمل بجدية على مسارات وقائية تصب في خانة استئصال هذا الفكر الخبيث على المدى البعيد، من دون إهمال لملاحقة خطره على المدى القريب عبر الاستراتيجيات والأدوات والوسائل المختلفة.