نظرية الولي الفقيه التي يقوم عليها نظام الملالي في إيران تستمد وجودها من تطويع الشعارات الدينية لا خدمة للدين بل وسيلة نحو عالم السياسة والحكم والتسلط، وهي في وجه آخر شبيهة بمبدأ الحاكمية الذي تأسست من خلاله جماعة الإخوان المسلمين. فالولي الفقيه نسخة شيعية للحركات السنية المتشددة من خلال اعتمادها تسييس الدين للوصول إلى الحكم.
أوجع النظام الإيراني رؤوس الجميع في منطقتنا بشعاراته ومزايداته الدينية وادعاءاته الزائفة بالحرص على الشعوب والدول، رغم أن هذا النظام ذاته نسف استقرار كثير من هذه الدول، وهو سبب مباشر في تشريد ملايين العرب وتهجيرهم ونزوحهم بين داخل بلادهم وخارجها.
أحد أسباب استمرار إيران في ترديد هذه الشعارات والادعاءات أنها مارست بنجاح ـ ولا تزال ـ لعبة خلط الأوراق منذ زمن طويل، وفي قلب هذه اللعبة كان الترويج لنظام ولي الفقيه باعتباره نظاما دينيا إسلاميا وليس سياسيا، رغم أن النظرية نفسها التي قام عليها النظام هي نظرية سياسية بامتياز، بل يعتبرها بعض الباحثين النظرية الأهم التي يرتكز عليها الفكر السياسي الشيعي.
أدرك أن ولاية الفقيه لها أصول وجذور تاريخية في التراث الشيعي في ظل غيبة “الإمام المعصوم”، حيث ظهر المصطلح للمرة الأولى في نهاية الربع الأول من القرن التاسع عشر في كتاب يسمى “عوائد الأيام” في أصول الفقه، من تأليف أحمد النراقي، ثم استدعاها الخميني من سراديب التاريخ لإحكام قبضة نظامه على حكم إيران تحت ستار ديني وبزعم امتلاك وكالة حصرية من الله عز وجل، وهي، بالمناسبة، الفكرة ذاتها التي انطلقت منها التنظيمات والجماعات المتطرفة سنية المذهب، وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، حين قامت بتأويل آيات “الحاكمية” الواردة في القرآن الكريم، وإخضاعها لتفسير ضيق ومبتور لممارسة الإقصاء والتهميش والسيطرة على الحكم في البلاد العربية والإسلامية السنية.
ولاية الفقيه أو المرشد الأعلى في جوهرها الفكري قريبة من صيغة مرشد الجماعة التي استنسخها حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين بدوره من جماعات وفرق تاريخية أخرى لا مجال للاستطراد عنها في هذا النطاق الضيق، حيث وضع البناء الأساس للحكم المطلق في الجماعة عبر نظام هرمي حديدي لا يجوز لأحد الخروج عليه، فطاعة المرشد لدى الإخوان المسلمين واجبة كطاعة ولي الفقيه في النظام السياسي الإيراني تماما، وكما يختار المرشد من نخبة محددة داخل الجماعة يختار ولي الفقيه أيضا من جانب مجموعة من الملالي الذين يحملون لقب “آية الله”.
تحليل أسس ولاية الفقيه تشير إلى أنها مشابهة لفكر الجماعات السنية المتشددة التي تتخذ من الإسلام ستارا
في الدراسات الغربية يصنف النظام الإيراني باعتباره نظاما ثيوقراطيا، ورغم أن هذا التصنيف يعتمد بشكل كبير على تحليل ظاهر النظام وهيكله الدستوري من حيث تولّي العمائم والملالي قمته واستخدامه شعارات ومفردات ومصطلحات دينية في المناسبات كافة، فإن تحليل أسس هذا النظام تشير إلى أنه مشابه تماما لفكر الجماعات السنية المتشددة التي تتخذ من الإسلام ستارا لرغبتها السيطرة على الحكم في العديد من الدول العربية والإسلامية في حين أنها جماعات سياسية بامتياز.
الأمثلة والبراهين على أن النظام الإيراني يعمل وفق توجه سياسي لا ديني أنه لا يعمل مبدأ الشورى بشكل حقيقي، بل ابتدع آليات فريدة لممارسة السيطرة والفرز وإحكام قبضته على من يصل إلى السلطة عبر آليات تبدو شفافة في ظاهرها، ولكنها مغرقة في الدكتاتورية والاستبداد، فهناك رقابة استباقية دقيقة وشديدة على من يريد الترشح لأيّ انتخابات في إيران، حيث العبرة بالولاء لولي الفقيه، ومن لا يعترف بهذا النظام يتم إقصاؤه فورا، وهناك ترسانة من المجالس والهيئات المتخصصة التي يسيطر عليها المحافظون المتشددون، وتحول دون إحداث أيّ تغيير قد يبتعد بالنظام الإيراني القائم عن أفكاره المتشددة التي قام عليها، وفي مقدمتها مجلس صيانة الدستور، ومجلس الخبراء ومجلس تشخيص مصلحة النظام، وجميعها مجالس تمثل الخصم والحكم في الوقت ذاته وتصادر أيّ مساحات أو هوامش للرأي والنقد قد تبرز خلال الواقع.
فعلى سبيل المثال، ينص الدستور على أن من حق مجلس الخبراء عزل الوليّ الفقيه في حالتين هما، عجزه عن أداء واجباته الدستورية، أو فقدانه صفة من صفات الأهلية المنصوص عليها في الدستور والتي تمّ بموجبها تعيينه، أو إذا تبين أنه لا يمتلك تلك الصفة من الأساس، في حين أن هذه الصفات غير قابلة في معظمها للقياس الدقيق، فضلا عن أن أعضاء مجلس الخبراء هم من يعينهم المرشد ذاته من الدائرة القريبة والموثوقة.
ولاية الفقيه ليست نظرية شيعية جامعة للشيعة في العالم العربي والإسلامي، فهناك شيعة كثيرون يرفضون هذه النظرية
ولاية الفقيه أيضا ليست نظرية شيعية جامعة للشيعة في العالم العربي والإسلامي، فهناك شيعة كثيرون يرفضون هذه النظرية ولا يخضعون لأيّ حكم يعترف بها، بل إن هناك علماء وفقهاء شيعة كبارا رفضوا توجهات الخميني في هذه النظرية، وفي مقدمة هؤلاء آية الله حسين منتظري، الذي أعلن رفضه التام لفكرة سيطرة الولي الفقيه على أمور الدين والدنيا معا ففرضت عليه عزلة جبرية في منزله حتى توفي في عام 2009، وكان أحد أبرز من كتبوا في نظرية ولاية الفقيه، وهناك رموز شيعية عربية كثيرة تنكر أسس ولاية الفقيه ولا تعترف بها، ومنهم مراجع شيعية عراقية ولبنانية لها مكانة كبيرة ومرموقة لدى العرب الشيعة منهم المرجع الشيعي العراقي علي السيستاني والسيد محسن الحكيم، والسيد محمد علي الحسيني الأمين العام للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، الذي يعد المرجعية الرسمية لدى الطائفة الشيعية في لبنان، علما بأن الخلاف الشيعي ـ الشيعي لا يتمحور حول الولي الفقيه أو ولاية الفقيه بل حول حدود هذه الولاية وتطبيقاتها.
الخميني من جانبه كان يرى أن الولي الفقيه هو صاحب الولاية المطلقة في شؤون الدين والسياسة في البلاد، ولاية الفقيه أيضا نظرية قريبة من الفكري البابوي الذي ساد أوروبا خلال حقبة عصور الظلام أو العصور الوسطى، التي شهدت سيطرة مطلقة للكنيسة البابوية على شؤون الدين والسياسة وأمور الحياة كافة في أوروبا، ولكن أوروبا نجحت في التخلص من هذه القبضة منذ نحو خمسة قرون تقريبا فيما حاولت جماعات الإسلام السني تطبيقها في السنوات الأخيرة وأخفقت في أهم محطاتها ورهاناتها.
ولكن النظام الإيراني الذي يتبع هذا النهج يحكم وفقا لهذا الفكر منذ عام 1979، ولا يزال المرشد يسيطر على كل شؤون الحياة في إيران! ومؤهلات المرشد طبقا للدستور الإيراني تبدو غامضة ومطاطة وصعبة القياس مثل: العلم والعدالة والمروءة والفقه الواسع بظروف العصر، والشجاعة والفطنة والذكاء والقدرة على إدارة الأمور، كما يسيطر تماما على مفاصل النظام عبر نصوص دستورية محددة، فضلا عن نحو ألفين من ممثليه من “حجج الإسلام” المنتشرين في جميع مؤسسات ووزارات وهيئات البلاد في الداخل والخارج.
الخلاصة أننا أمام نظرية تنطلق من الدين وترفع شعاره ولكنها تدلف إلى السياسة وتبحث عنها وتهدف إليها وتضع مصالح واضعيها نصب الأعين، فلا هي تعبر عن الدين ولا تسعى إلى تحقيق مآربه.