“الأوقات الراهنة تشهد تغيرات تكتونية وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط”(نسبة إلى تحرك طبقات الأرض التكتونية التي تسبب الزلازل وتحرك القارات وتغيير تضاريس الأرض)، هذا ما يراه مايكل هايدن الرئيس السابق للاستخبارات الأميركية بحسب مقابلة أجراها مع سي إن إن.
وقد جذبت تصريحاته انتباه الكثير من الخبراء والمراقبين في العالم، ولكني لم ألحظ لها أثرا يذكر في عالمنا العربي، رغم ما تنطوي عليه هذه التصريحات من معان ودلالات بالنسبة لمستقبل المنطقة ودولها؛ لا سيما أن هايدن استطرد في تصريحه قائلا إن “الذي نراه هو انهيار أساسي للقانون الدولي، نحن نرى انهيارا للاتفاقيات التي تلت الحرب العالمية الثانية، نرى أيضا انهيارا في الحدود التي تم ترسيمها في معاهدات فيرساي وسايكس بيكو، ويمكنني القول إن سوريا لم تعد موجودة والعراق لم يعد موجودا ولن يعود كلاهما أبدا، ولبنان يفقد الترابط وليبيا ذهبت منذ مدة”.
ما يهمني في البداية هو محاولة قراءة تصريحات هايدن المباشرة والصريحة بشكل لافت، التي لم يحاول فيها إرسال تلميحات أو إشارات قابلة للتأويل أو يترك معاني بين السطور، بل كان مباشراً وواضحاً لدرجة تستحق الاستغراب، فحديثه عن تغيرات “تكتونية” يعني بالنسبة لي أن سيناريو إعادة هندسة الحدود الجغرافية للعديد من دول المنطقة يمضي على قدم وساق.
هايدن مسؤول سابق من العيار الثقيل ويدرك مغزى ما يقول، ونحن بدورنا ندرك أن مثل هذه “التحركات الجيولوجية” تنجم عنها تغيرات في التضاريس والجغرافيا السياسية.
لا شك أن تصريحات مايكل هايدن بشأن اختفاء العراق وسوريا ليست جديدة فقد سبق أن تحدث عن سيناريو مماثل، يوليو الماضي، في حوار له مع صحيفة لوفيجارو الفرنسية، ولم ينتبه سوى قلائل أيضا لذلك، بل إن هايدن قد تحدث في ذلك الحوار عن سيناريو أكثر قتامة وتشاؤماً حين أشار إلى حالة من عدم الاستقرار الإقليمي ستستغرق نحو عشرين أو ثلاثين عاماً.
ربما لا تكون مفارقة كبيرة بالنسبة لخبراء العلاقات الدولية أن يعاد النظر في التفاهمات السرية التي تمت عام 1916 بين البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، بعد مئة عام من التوصل إليها وما ترتب عليها من تقاسم للنفوذ في منطقة الشام والعراق بين إنكلترا وفرنسا.
الشواهد واضحة أن ثمة علاقة تربط بين تصريحات هايدن وهذه التفاهمات، لا سيما أنه اعتبر أن العراق وسوريا قد اختفيا فعليا من وجهة نظره، ولم يعد لهما وجود على الخارطة، بل كان واثقاً من قوله “يمكنني القول إنهما لن يعودا كما كانا مطلقا”. وهي إشارة بالغة الخطورة في ضوء ارتباط الدولتين العربيتين تاريخيا بهذه الاتفاقية، وما يؤكد ذلك أيضا أن هايدن تحدث في مقابلته عن مصير مماثل لليبيا، وهي أيضا من الدول المرتبطة بتفاهمات سايكس ـ بيكو.
ليس سراً أن خطط التقسيم تدور في أروقة رسمية أميركية، ولا تقتصر على تصريحات متلفزة، فقد طرحت في مجلس النواب الأميركي من قبل خطة لتقسيم العراق إلى ثلاث دول بحسب ما نشر نهاية ابريل من العام الماضي في مجلة تايم، المعروفة بقربها من دوائر صنع القرار الأميركية، وهي خطة تضاهي خطة برنارد لويس الشهيرة التي نشرت قبل نحو ثلاثة عقود، وتقوم على إعادة هندسة المنطقة العربية وفق معايير عرقية وطائفية وقبلية.
ما يحدث في المنطقة لم يكن عشوائيا، فكرة اللهب تتدحرج منذ عام 2003 حيث الغزو الأميركي للعراق، ثم إطلاق مستشارة الأمن القومي الأميركي السابقة كونداليزا رايس بالونة “الفوضى الخلاقة”، وما تلا ذلك من اندلاع ما سمي بـ”الربيع العربي”، الذي دشن الفوضى وترجمها على أرض الواقع. ثم ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وإعلانه سقوط سايكس ـ بيكو.
هذه التطورات أسفرت بدورها عن اشتعال الصراع الإقليمي حول ما يوصف في الأدبيات البحثية بـ”حدود الدم”، واحتدم التنافس بين القوى الإقليمية والدولية حول النفوذ والمصالح، ودخل الجميع دائرة الخطر، بما فيهم تركيا، التي تدرك منذ البداية ماهية السيناريو التخيلي للمنطقة، وأرادت التحكم في مساراته.
ولكن خيط التحكم قد انقطع وأفلت من بين يديها بإطاحة نظام الإخوان المسلمين في مصر، ثم الانحياز الأميركي للأكراد ومساعدتهم بشكل واضح في تحقيق حلمهم التاريخي ببناء دولة مستقلة، وهكذا يمضي السيناريو على جثث الملايين، وتحت غطاءات مذهبية وعرقية، ومن خلال حروب بالوكالة بين الميليشيات والتنظيمات والأقليات.
قد يستغرب البعض تصريحات رئيس الوزراء التركي داودأوغلو الذي قال إن بلاده ترفض وجود سايكس ـ بيكو جديد في المنطقة، ولكن تصريحات سابقة لهايدن تفسر بدورها هذا الموقف التركي، فقد تحدث الرئيس السابق للاستخبارات الأميركية في تصريحات له منشورة عن دعم أميركي مطلق للأكراد ووصفهم بأصدقاء الولايات المتحدة، ووعد بعدم التخلي عنهم، وهو بالفعل ما نراه حاليا، وهو أمر يغضب بالتأكيد الجانب التركي، الذي يدرك خطورة الدعم الأميركي للأكراد وما وراءه من ترتيبات تهدد الأمن القومي التركي، وقد تضع نهاية لسنوات العسل التي طالت بين أنقرة وواشنطن.
من هنا قد يعتقد أن تركيا لن تقبل الهزيمة الاستراتيجية للمرة الثانية في غضون مئة عام، ويسارع إلى الارتماء في أحضان واشنطن والاحتماء بها، غير مدرك أن الأمر يفوق طاقات تركيا الاستراتيجية، ويخضع بالأساس لحسابات القوى العظمى، التي يمكن أن تتوصل إلى تفاهمات جديدة مع الجانب التركي، الذي سيوافق حتماً ويحصل على “القليل” خشية الخروج خالي الوفاض من لعبة “تقاسم الكعكة”.
لفت انتباهي أيضا أن حيدر العبادي "البغدادي"! رئيس وزراء العراق الذي انتفض بسبب تصريحات الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية الإماراتي، والتي تصب في مصلحة العراق وتستهدف حماية شعبه، لم يبادر إلى التعليق على تصريحات مايكل هايدن، رغم أنه يدرك خطورة محتواها، كونها تناولت بشكل مباشر غيابا رسميا للدولة العراقية من الخارطة، فهل وصلت تصريحات هايدن إلى العبادي وتجاهلها، أم أن الرجل لا يقرأ ولا يسمع؟
في كل الأحوال من حقي ـ كمراقب ـ أن أسأل حيدر العبادي "البغدادي": هل أنت مهتم حقا بما يقال عن مصير دولتك الشقيقة؟ أم تنتبه فقط إلى ما يؤذي مشاعر قادتك في الحرس الثوري الإيراني؟